حصاد كفاح الحياة في سيرة ذاتية

عبد الله العليان

لا شك أن سرد المذكرات أو السيرة الذاتية الشخصية، مهمة وضرورة لتتعرف الأجيال مسيرة جيل، سبق هذا الجيل في مواجهة تحدي الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن الذين اهتموا بكتابة هذه السيرة، الشيخ عبدالله بن علي باكثير الكندي، وهو ما صدر في كتابه: "حصاد كفاح الحياة"، عن دار الاتحاد العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، وقد قدَّم لهذا الكتاب الدكتور سالم بن عقيل مقيبل، وقد فتح الشيخ عبدالله بابًا للذاكرة، منذ حياة الطفولة التي عاشها مع أسرته في ولاية صلالة، وقد سرد سيرة الأسرة الاجتماعية والاقتصادية، وبالأخص بعض الأعمال التجارية والزراعية، وعلاقتهم ببعض المسؤولين والشيوخ في ظفار، والتي تجسِّد التواصل الاجتماعي الحميم بين الأسر آنذاك من خلال لقاءاتهم في مجلس والده ثم أخوه الأكبر سنًّا، درس الشيخ عبدالله بن علي الكندي في سنواته الأولى بمدرسة الكتّاب في صلالة، على يد الشيخ عبدالله بن عبود العجيلي، وكانت تتركز في تحفيظ القرآن الكريم والحديث والفقه المتعلقة بالصلاة، والأولاد يتم تدريسهم بالمسجد، والبنات يتم تدريسهن على زوجة إمام المسجد في المنزل.

وبعد تولي السلطان الراحل سعيد بن تيمور الحكم عام 1933 في عُمان، يقول المؤلف: "أمر ببناء مدرسة لتعليم الأولاد في ظفار تُسمى المدرسة السعيدية، تم بناء هذه المدرسة خارج سور الحصن بحوالي كيلو ونصف الكيلومتر.. بدأت الدراسة في سبتمبر فيها عام 1936، دخلتها المجموعة الأولى من الطلاب وبعدها عدة مجموعات، وأنا وزملائي كنا مجموعة عام 1946. وسرد المؤلف نظام الدراسة في المدرسة السعيدية والمواد التي تقدم فيها مع بداية تأسيسها، وبعد انتهاء عقد المعلم هادون محمد العطاس كمدير للمدرسة، تمَّ تعيين الأستاذ حفيظ بن سالم الغساني مديرًا للمدرسة عام 1949. كما أشار المؤلف في هذا الكتاب إلى ظروف "الضائقة المالية والكساد التجاري بعد إفلاس تجارة اللبان وهذه الضائقة عمت كل نواحي الحياة".

ويذكر الشيخ عبدالله في هذا الكتاب، مشاهدته للمرة الأولى للسلطان الراحل قابوس في طفولته بصلالة، فيقول: "رأيت شخصاً يجر عربة صغيرة وخلفه شخص آخر بجانبه، أسرعت السير لإدراك هذا المنظر، وعندما وصلت إليه عرفت الأشخاص الذين هم مع العربة، ورأيت طفلاً صغيرا يبلغ من العمر حوالي ثلاث سنوات داخل العربة، وعرفت أنه السلطان قابوس -طيب الله ثراه- وتحدَّث المؤلف في سيرته الذاتية هذه عن الاغتراب عن الوطن، في ظل الظروف الاقتصادية التي عاشتها عُمان، فيذكر أنَّ عمره كان في التاسعة والعشرين عندما هم بالسفر للخارج، وكان ذلك في العام 1953، والذي دفعه إلى ذلك أنَّ أخاه محفوظ بن علي الكندي كان يعمل في مملكة البحرين، فسافر بصحبة الشيخ عوض بن علوي آل إبراهيم، وكان السفر آنذاك عن طريق البحر مع الصعوبات التي تحدث بسبب الأمواج، مع إمكانيات السفر البدائية، فتم المرور بجزيرة مصيرة، ثم مطرح ومسقط، غادروا إلى ولاية صحار، بعدها تم السفر إلى إمارة دبي، بعدها الوصول إلى البحرين لزيارة أخيه محفوظ الذي كان يعمل هناك.

ويذكر المؤلف أنه بعد مكوثه فترة في البحرين عند أخيه، فكر في الذهاب إلى السعودية مع مجموعة من العمانيين لإيجاد فرص للعمل هناك، مع بداية النهضة بالمملكة في الخمسينيات من القرن الماضي، خاصة مدينة الدمام، ومكث عند بعض المعارف من ظفار، قبل الحصول على عمل، وحصل على وظيفة في إحدى شركات السكك الحديدية بالدمام، لكن راتبها كان محدودًا ولا يناسب مقدرته المعرفية، ثم عمل بإحدى الشركات الإدارية بالدمام بعد اختباره في الكتابة والحساب، وعندما تأكد مدير الشركة من قدراته تم توظفيه بالشركة الجديدة براتب أفضل من العمل السابق.

ويذكر المؤلف الشيخ عبدالله باكثير الكندي قصة عمله، فيقول: "بدأت عملي في الشركة الجديدة شركة العزوني والكردي، أقوم بتسليم أصحاب المحلات التجارية أنواع الملابس عند وصولها حسب الأسعار التي تحددها الشركة، وهناك اتفاق بين الشركة وأصحاب المحلات التجارية على سداد القيمة في دفعات أسبوعية.. وبعد مرور سنتين من عملي مع الشركة المذكورة وصل راتبي إلى 600 ريال سعودي". كانت نظرة المؤلف للتعليم كبيرة، والحاجة للاستزادة من المعارف التي يستزيد منها، لذلك كما يقول الشيح عبدالله: "أحسست أن الإنسان لابد أن يطور نفسه بالعلم، وأن دراستي بالمدرسة السعيدية بظفار بالمرحلة الابتدائية لا تكفي، فسجلت في المدرسة الإعدادية في الدمام في الدراسات المسائية، وانتظمت في الدراسة حتى حصلت على الشهادة الإعدادية في 1957م. بعدها، انتسبت إلى المعهد العربي بالدمام للدراسات المسائية".

عاد الشيخ عبدالله إلى ظفار عام 1958، لزيارة مدينته التي غادرها بسبب الظروف المعروفة آنذاك، وبطلب من أسرته أيضاً، بعدما قضى خمس سنوات في الغربة، وفي هذه العودة يذكر الشيخ أنه فكر في الزواج، فيقول: "في بداية شهر يونيو 1959 بدأت البحث عن شريكة الحياة وحصلت على الفتاة من إحدى العائلات الطيبة وتمت خطبة الفتاة من أهلها، وبعد موافقتهم تم إرسال المهر المتفق عليه.. وفي أواخر شهر أغسطس 1959 أقيم فرح زواجنا، أنا وأخي محمد سويًّا، لكن الفرحة كانت محدودة في تلك الظروف. وفي العام 1960، عاد الشيخ عبدالله مرة أخرى للخليج، لنفس الظروف السابقة، وعاد إلى عمله السابق في الدمام، فتم الترحيب بعودته للعمل بالشركة، ومع اتصاله ببعض الأصدقاء في ميناء سعود بالكويت لإيجاد فرص للعمل هناك، وفي نهاية ديسمبر 1960، تم إنهاء عمله في الشركة، وفي أول يناير غادر الدمام إلى ميناء سعود عن طريق البر، والتقى ببعض الأصدقاء هناك، وفي العام 1962، اتصل به أحد العمانيين في الجيش الكويتي، فيقول: "أخبرني أن الجيش الكويتي أعلن عن حاجته لموظفين إداريين، وإذا رغبت في العمل بالجيش علي أن أتقدم في التاريخ المعين الذي حدده لي في للمقابلة، وبعد أسبوع من المقابلة أبلغي الأخ محمد برهام بقبولي".

وتنقل الشيخ عبدالله أثناء العمل بالجيش الكويتي إلى وظيفة عسكرية أفضل من العمل الإداري السابق، ثم عاد الشيخ عبدالله إلى ظفار عام 1965، لكن الأوضاع كانت متوترة مع بداية الثورة، فلم يمكث كثيرًا وعاد مرة أخرى عام 1966 للخليج للمرة الثالثة، لكن تم السفر بطريق آخر، وهو الخروج من صلالة إلى الجبال، مع مجموعة من الشباب وبداية اندلاع الثورة في ظفار.

أشار المؤلف إلى قصة قيام الثورة عام 1965م، وسرد الظروف والحيثيات التي برَّرت قيامها، وتشكيل جبهة تحرير ظفار، وترأس الشيخ عبدالله بن علي باكثير "جنة الارتباط" بالثورة، وذكر التفاصيل التي دارت مع اللجنة حتى تم التغيير عام 1968 بتغيير اسم الجبهة إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل، واتجاهها لليسار، كما يستذكر الشيخ عبدالله زياراته إلى مصر وسوريا لزيارة بعض الأقارب والأصدقاء الذين يدرسون هناك، والتعرف على الدول وآثارها وتراثها العربي الكبير. وبعد التغيير في 23 يوليو عام 1970، عاد الشيخ عبدالله باكثير الكندي إلى عُمان خلال الإجازة السنوية من عمله بالكويت 1971، وزيارة الأهل والأسرة، وكانت تمهيدًا للعودة النهائية للوطن بعد التغيير، وفعلاً هذه الزيارة مهدت لفكرة الاستقرار في الوطن، بعد دعوة السلطان قابوس -رحمه الله- للمواطنين الذين كانوا خارج الوطن لأسباب كثيرة، للعودة والمشاركة في بنائه، وهم ما تمَّ بعد عودته في العام 1973، والعمل بوزارة المواصلات، وكانت بداية المشوار في الخدمة الوطنية، وحصوله على دورات تأهيلية في اللغة والإدارة بالمملكة المتحدة، وكانت فترة الترقي في الوظائف إلى درجة وكيل وزارة.

ولا شك أنَّ هذه السيرة الذاتية هي مُعبِّرة عن قصة وطن بكل تحولاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واستطاع الشيخ عبدالله باكثير الكندي أن يسردها بأسلوب جذاب وبذاكرة قوية مُبهرة، لكل مراحل هذه السيرة وتتابعها، ويستذكر حتى التواريخ بأيامها، وهذا يبرز قوة الذاكرة بحمد الله، بعد أكثر من 60 عامًا من كفاح العمر وحصاده.

متعه الله بالصحة والسعادة والعمر المديد.