د. محمد بن خلفان العاصمي
نموذج الديمقراطية العمانية الممارسة وجدت لتستمر وتحافظ على التوازن السياسي في البلاد، فالتمثيل الشعبي الذي يجسده مجلس الشورى، وأهل الخبرة والتجربة الذي يمثله مجلس الدولة، مكونات وطنية تسهم في صنع القرار الوطني، وهي من ركائز الدولة الحديثة التي تؤمن بالديمقراطية والشراكة، وما هذا التوجه الذي آمنت به القيادة الرشيدة منذ بزوغ فجر النهضة المباركة إلا رؤية واضحة وحكيمة في إدارة شؤون البلاد، وتماشيًا تاريخيًا مع مبادئ صاغت مسيرة الدولة العمانية منذ البدايات وحتى يومنا الحاضر، سمات وخصائص امتزجت بأصالة هذا الشعب الذي اعتاد التشاور والتباحث في كل أمر، من الأسرة إلى الجماعة والقبيلة، وصولًا إلى الدولة.
خلال الأسبوع الماضي قدم مجلس الشورى حصاده السنوي لدور الانعقاد الثاني من الفترة العاشرة، وقدم مجلس الدولة كذلك حصاده لدور الانعقاد الثاني من فترته الثامنة، هذا الحصاد حمل معه أرقاما توضح العمل والجهد الذي قدمه مجلس عُمان خلال ثمانية أشهر هي عمر دور الانعقاد، والمتابع لمضمون الحصاد يدرك حجم الجهد الكبير الذي يعكس فلسفة التكامل مع الحكومة، حيث تضمن الحصاد اجتماعات مكتبي المجلسين مع مجلس الوزراء واستضافات مجلس الشورى لأصحاب المعالي الوزراء لتقديم بياناتهم، والأهم من ذلك الكمية الكبيرة من مشاريع القوانين التي درسها مجلس عُمان، وقدم فيها رؤيته وآراءه.
كما تضمن الحصاد منهجية المتابعة التي قدمها مجلس عُمان -بشقيه- لأداء المؤسسات الحكومية من خلال الدراسات والرغبات والمقترحات والأسئلة وطلبات الإحاطة وطلبات المناقشة وغيرها من الأدوات التي حددها القانون، والصلاحيات التي مُنحت لكل مجلس في سبيل ممارسة اختصاصاته، وفي الجانب المالي قام المجلسان بدراسة مشروع الميزانية العامة للدولة للعام ٢٠٢٥م وقدما رؤيتهما فيه، كما هو الحال مع كل دور انعقاد، كما قام مجلسا الدولة والشورى بدورهما في متابعة تنفيذ المشاريع التنموية والخطط الاستراتيجية عبر اللجان المختصة، وهو الدور الذي يسعى من خلاله المجلسان إلى تسريع وتيرة تنفيذ المشاريع والخطط وضمان استمرارية العمل بما يحقق المصلحة العامة.
وعندما أورد النظام الأساسي للدولة إحالة جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة التقرير السنوي للمجلس عند رفع التقرير إلى المقام السامي، فهي رؤية واضحة من عاهل البلاد المفدى -حفظه الله ورعاه- حول أهمية إشراك ممثلي الشعب أعضاء مجلس الشورى، ومن اختارهم جلالته ونالوا شرف التكريم بعضوية مجلس الدولة في متابعة شؤون الدولة ومشاهدة الصورة بكل شفافية ووضوح والمشاركة في تقييم أداء المؤسسات، واتخاذ الإجراءات المناسبة بحسب ما نص عليه قانون مجلس عُمان من صلاحيات لكل مجلس، وهذا يعكس أهمية المجلسان في المنظومة الرقابية التقييمية لأداء الوحدات الحكومية.
لقد قدم مجلس عُمان دورًا مهامًا في جميع القضايا المجتمعية التي شغلت الرأي العام خلال الدور الثاني كعادته، وتقرير الحصاد يزخر بتفاصيل تلك المساهمات، والتي كانت على شكل دراسات أو رغبات أو أدوات متابعة، وحظيت ملفات مهمة وحيوية مثل: قضايا الباحثين عن عمل والمسرحين، وملف منظومة الحماية الاجتماعية، والتنويع الاقتصادي، والأمن الغذائي، والتعليم والصحة، والعمل والتراث، والخدمات والمرافق العامة، جميع هذه الملفات حظيت بالنظر والاهتمام، وقدم فيها مجلس عُمان مقترحات وتوصيات وحلول تسهم في حلحلة التحديات التي تواجه المواطن.
إن الدور التشريعي وصلاحيات المتابعة التي أقرها قانون مجلس عُمان والتوسع الذي طرأ عليها بعد صدور القانون في يناير ٢٠٢١م هي خطوات في سبيل نمو التجربة الديمقراطية العمانية، هذا النمو الذي يجب أن يسير كما خطط له، وأن يأخذ وقته في النضج والتطور دون استعجال وقفزات قد تتسبب بتأثيرات سلبية عليها، كما حدث لعديد الدول التي أرادت القفز مباشرة إلى مراحل متقدمة، وسعت لحرق مراحل مهمة يستوجب خوضها، فالديمقراطية كمشروع وفلسفة لا تبنى في اتجاه واحد، بل يجب أن ينظر إليها من منظور شمولي تكاملي، وهي تبدأ من الوعي المجتمعي والثقافة والفكر الاجتماعي والتجارب التي تصقل المجتمع، ولا بد من النظر للتجارب الرائدة في هذا المجال ودراسة التحولات التي مرت بها هذه المجتمعات حتى وصلت لمرحلة التطبيق المثالي.
التجربة العمانية الديمقراطية وُجدت لتستمر وتتطور وتتفاعل مع التغييرات التي تطرأ على المجتمع والعالم المحيط، واستنساخ التجارب دون دراسة متعمقة كفيل بتعطيل نمو هذا النموذج المتفرد، وبلا شك فكل شيء قابل للمراجعة والتقييم والبحث والتطوير حتى نخلق الاستدامة التي تضمن الجودة والتميز، ومن أراد أن يبحر في أعماق حصاد مجلس عُمان فما عليه سوى زيارة أحد حسابات المجلسين، ليرى حجم العمل الذي يقدمه مجلس عُمان في المشهد الوطني.