تسهيل الإجراءات (1)

د. صالح الفهدي

حاجة الحكومة لـ"قانون باركنسون"

أخبرني أحد مستشاري السلطان قابوس -رحمه الله- بعدَ أن كلَّفه بإنجازِ عَمل وهو من المقرَّبين إليه والحديثُ بينهما يخلو من التكلَّفِ والرسميَّة: لماذا تُكلِّفني يا مولاي وتعلم أنني مزحومٌ بالانشغالات، فضحك السلطان قابوس: لهذا السبب أكلِّفك، لأنك مشغول والوقت عندك له قيمته، وعلى ذلك ستنجز ما أطلبه منك دون تأخير، لأنك ستُريد التخلُّص منه سريعاً!

تقودني هذه المقدمة للحديثِ عن حاجة الحكومة إلى تطبيق قانون باركنسون (Parkinson's law)، وهو قانون قائم على مفهوم أن العمل يتوسَّع لكي يملأ كل الوقت المتاح لإنجازه، وهذا يدعو إلى عدم تخصيص وقت أطول لتنفيذ عمل ما. فالملاحظِ أن أي مشروع يميلُ إلى استغراق الوقت المخصص له، فإذا تم تخصيص ساعتين على سبيل المثال لمجموعة من الأفراد لإنجاز مهمة معينة مقابل 4 ساعات لمجموعة أخرى من الأفراد لإنجاز المهمة ذاتها؛ فإنَّ كلا المجموعتين تنهي العمل في حدود الوقت المحدد لها. وبعبارة أخرى: يتمدَّد العمل كي يملأ الوقت المتاح لاستكماله، ويتم تطبيق هذا القانون عن طريق تحويل الأعمال إلى مشاريع مع تحديد وقت نهائي وحاسم لكل عمل من الأعمال، مع الالتزام الكامل بهذا الموعد والتدرج في الأولوية  (ويكيبيديا).

أتحدَّث عن الحاجة إلى تطبيق "قانون باركنسون"، بعد أن مررتُ بتجربةٍ لم تنتهِ بعد، في أحد المرافق الحكومية الخدمية، ولعلَّ سردَ تفاصيلها سيُعطي الصورة الواضحة في مدى تعقيد الإِجراءات المتبعة لقضاء المصالح، وإنهاء الخدمات!

ذهبتُ في اليوم الأوَّل إلى الجهة المعيَّنة، ففوجئتُ بحشدِ المراجعين المتكوِّمينِ في مساحةٍ ضيِّقةٍ جداً لا تتناسبُ وأهمية الجهةِ والخدمات المهمة التي تضطلعُ بها، مراجعون كُثر، طوابيرُ فوضوية أمام مكتبٍ لا يفصلُهُ عن المدخل سوى مترين، وثمَّةَ طوابير فوضوية أُخرى للدخول إلى قاعة صغيرة لا تحتملُ أعدادهم، مكان انتظار مزحوم، أجواء حارَّة دون نظام تكييف كافٍ.

الموظف الذي يستقبلُ المراجعين مُثقلٌ بالطلبات والاستفسارات، دخلتُ أخيراً بعد طابورين إلى الموظف المختص، طلبَ رسالة مكتوبة لم يتحدث عنها موظف الاستقبال ولا هي موضحة في الموقع الإلكتروني، فكتبَ بذلك نهاية اليوم الأول، ثم جاء اليوم الثاني فحشرتُ نفسي في طابور دخول القاعة المزحومة، حينها طلب مني رجالُ الأمنِ رقماً، لم يُطلب بالأمس، وأوضحتُ لهم ذلك، فمنحني أحدهم رقماً (إكراميةً منه) مع تأكيده أنَّ الرقم قد ينفع أو لا ينفع! قابلتُ ذات الموظف مرة ثانية، تأفَّف في البداية حين رأى الرقم؛ فقال محتجَّاً: أنا لا أستقبلُ هذا الرقم وما يليه، قُلتُ له: ما ذنبي اسأل الموظف الذي أعطاني الرقم، دار بينهما حديثُ مُعاتبة، بعدها أخذ الرسالة التي طلبها بالأمس بضيق صدرٍ، ثم طلبَ مني أن أخرج من القاعة وأملأ استمارة، سألته: لماذا لم تقل لي ذلك بالأمس حتى آتيك بالرسالة والاستمارة؟ تلعثم، لم يدرِ ما يجيب، خرجت، فانتهى بذلك اليوم الثاني، جئتُ في اليوم الثالث، قال لي موظف الاستقبال: لقد جئت متأخراً، فموظف القاعة لا يتجاوز إنجاز عدد عشرة مراجعين في اليوم الواحد، لكنَّه مع ذلك أعطاني رقماً (رأفةً منه)، وتمنَّى لي الحظ في أن يُقبل الرقم، وبعد انتظارٍ غير منظَّمٍ وصلت للموظف لليوم الثالث، وشكرتُ الله على أنَّهُ لم يطلب مني الرقم..! دوَّن الموضوع في السجلَّات، وأخذ طلبي مساراً رسميًّا، سألتُ الموظف: أليس لديكم نظاماً إلكترونيا يختصر كل هذه الإجراءات والمراجعات، قال: نعم، ولكنه غير فعَّال..!! جاءتني رسالة نصيَّة بعد أيام تطلبُ أوراقاً أُخرى لم تُطلب سابقاً.. (وتستمرُّ تفاصيل الحكاية..!).

لقد تعمَّدتُ سرد التفاصيل لأصوِّر النظام المعقَّد لإنهاءِ إجراءات موضوعٍ بسيطٍ لا يستحقُّ كل هذا التفرُّغ اليومي من الالتزامات الشخصية، ولا كل هذه الإجراءات المتبعة، ولا الطوابير غير المنظَّمة، ولا غير ذلك.. ولو أنَّ مسؤولاً يمتلكُ رغبةً وفكراً في التغيير والاختصار لجعل كل تلك الإجراءات في صفحة واحدةٍ على تطبيق إلكتروني تنتهي بضغطةٍ زرٍ واحدةٍ تختصرُ الأوقات الثمينة والجهود المضنية!

إنَّ إضاعة الوقت في إنجازِ المعاملات، وقضاء المصالح في بعض المرافقِ الحكومية لا يتزامنُ مع طبيعةِ العصرِ إطلاقاً، ولا يتماشى مع خطة الدولة لتحقيق رؤيةٍ مستقبليةٍ واعدةٍ، لهذا ذكرتُ حاجة الحكومة لـ"قانون باركنسون"، الذي يركِّز على تحديد الوقت المناسب لقضاء كل مصلحة، وحينها تُدركُ كلَّ جهةٍ قيمة الوقت المهدور، والوقتُ أعظم ثروة تملكها الأُمم في مسار تنميتها، وتقدِّمها، كما أنَّ ذلك سيكونُ حلَّاً من حلول التعقيد في قضاء المصالح، وإنهاءِ الإِجراءات.

ومع توافِّر الأنظمة الإلكترونية، فقد أصبح ضبط الوقتِ لإنجاز الواجبات أمراً يسيراً؛ حيث تطبق بعض الدول أنظمة الإنجاز حسب الوقت المتوقَّع، فإن لم تُقضَ المهمة، فستتحوَّل تلقائيًّا إلى المسؤول، وهكذا يحرص الموظف على قضاء المصلحة في وقتها المحدَّد دون تأخير.