د. صالح الفهدي
لُقاحات التحصين القيمي
هبت الأُمم لتحصين شعوبها ضد الجائحة الوبائية العالمية، وبذلت أموالا طائلة لشراء أفضل اللقاحات، وأكثرها نجاعة وفاعلية للحفاظ على صحة الناس، بَيْد أنها قصَّرت في جانب اللقاحات الأخلاقية التي هي أساسُ الوجود مثلها كمثل الصحة، فما قيمة إنسان يتمتع بصحة تامة يُعاني من وهن في الأخلاق، وعلة في الأدب؟!
وكيف هو حال شعب يتلقى فيروسات خطيرة تتقصَّد فساد أخلاقه، وتهتِك حشمته، وضرب حيائه وعفته؟! ثم تسأل: كيف لا تبذل الدول الأموال الطائلة لتحصين شعوبها ضد الفيروسات الأخلاقية بذلها الأموال لمكافحة الفيروسات الوبائية؟ ما قيمة شعب تصاب أخلاقه في مقتل وتُرمى في الصميم؟! التحصين القيمي هو أعظم ما يمكن أن تقدمه أية دولة لشعبها بعد صحته، وأعظم ما يقدمه أب لأبنائه، إن هو حصنهم بالأدب، والأخلاق منذ صغرهم، يقول الإمام علي بن أبي طالب:
عود بنيك على الآداب في الصغر
كيما تقر بهم عيناك في الكبر
وإنما مثل الآداب تجمعها
في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
هي الكنوز التي تنمو ذخائرها
ولا يخاف عليها حادث الغير
وفي غمرة ما يتهدَّد مُجتمعاتنا من "فرض لقيم منحرفة" تتساوق في ألوان وأشكال شتى، بأساليب ممنهجة، وبوسائل مدعومة من كبريات الدول والشركات، نجد أنفسنا أمام خيارين: أن نكون أو لا نكون، ولا يمكننا أن نكون حياديين، بأن نختار الصمت فالصمت يعني الإستسلام، وهو ما يعني الفناء!
وإذا كنا مُنفتحي العقول أمام الثقافات الأخرى للاستفادة المتبادلة، فإننا في المقابل غير منفتحين أمام كل ما يأتينا منها من ابتذال وتهتك وانحلال وشذوذ على أنه "قيم عالمية"؛ فلنا قيمنا التي نشأنا بها على أسس مكينة، وقواعد متينة، وفي هذا النطاق يقول الزعيم التاريخي للهند المهاتما غاندي: "إنني لا أريد أن ترتفع الجدران من كل جانب حول بيتي، ولا أن يحكم إغلاق نوافذي، إنني أريد أن تهب ثقافة كل أرض حول بيتي بأقصى قدر من الحرية، لكنني أرفض أن تقتلعني ريح أي منها من جذوري".
وإذا كان تقدم الحضارة الأوروبية، والأمريكية المادي مشهودا ومؤثرا، إلا أنها -بتخليها عن الدين- تخلخلت قواها الروحية بدءا من نبوءة نيتشه (موت الإله)، إلى نبوءة ميشيل فوكو (موت الإنسان)، هذا الإنسان الذي لم يعد إنسانا بأحاسيس وعواطف وانفعالات وأخلاقيات وإنما هو سلعة من السلع تباع وتشترى، وهكذا يسير العلم -بذكائه الصناعي- إلى تحويل هذا الإنسان ليكون إما روبوتا آليا أو إنسانا مدجنا تحت خدمة الروبوت!
يقول سيد قطب في كتابه "مفاهيم ينبغي أن تصحح": "إن الإنسان -بكل الإنتاج المادي الذي ينتجه- يمكن أن يهبط أسفل سافلين؛ إذا تخلى عن القيم التي تجعل الإنسان إنسانا، وترفعه عن مستوى الحيوان"؛ مما يعني أن القيم هي اللقاح الفاعل لتحصين الإنسان من الإنحدار نحو الحضيض إلى عالم الحيوان، وهو حضيض نراه اليوم بشعارات مختلفة، لكنها روائحها عفنة، نتنة تزكم الأنوف!
التحصين القيمي هو ما يقي الشعوب الحرة من أن تنزلق إلى هاوية الضياع، ومستنقعات الفساد؛ لأنها فقدت المرجعيات والقواعد والأسس التي تستند إليها وتقوم بها، في ظل هجمات شعواء لا تلقي اعتبارا للفطرة الإنسانية السوية، فكل هدفها هو خلخلة هذه الفطرة السوية، وتشظيها لإنتاج أنماط من العلاقات غير السوية تحت مظلة (الحرية) الضالة، يقول الشاعر معروف الرصافي:
إذا استحالت سجايا القوم فاسدة
فليس ينفعهم علم ولا علم
وليس يختل حبل الملك مضطربا
إلا إذا اختلت الأخلاق والشيم
إنَّ مُجتمعاتنا اليوم هي أحوج ما تكون إلى الاستنفار من أجل "التحصين القيمي" بموازنات مالية، وجهود مكثفة، وطواقم كفوءة، ومشاريع واضحة، كما حدث مع "التحصين الوبائي" تماما، ولا يجب أن تقلل أية دولة تريد أن تحفظ وجودها، وتصون هويتها، وتحفظ تاريخها من البذل والعطاء في "التحصين القيمي"، والأمر في تقديره يُنبئ بمدى بعد أو قصر نظر رعاة المجتمعات، ومدى تبصرهم أو عمايتهم في الأمور؛ فالرهان معقود بهم، وما أجله من رهان.
قال محمود صفوت الساعاتي: "إن لم يكن مثلي يسيء ومثلكم *** يغضي فأين مكارم الأخلاق".