الأمم الأخلاق (8)

د. صالح الفهدي

ما وراء الشعارات

لا شك أننا، وباعتبارنا شعوباً عربية إسلامية، نسعى مع الشعوب والحضارات والثقافات الأخرى إلى "القيم الإنسانية المشتركة"؛ لأنها جزء لا يتجزأ من جوهر رسالة الإسلام العالمية "لتعارفوا"، والتي لم يبعث رسولها الكريم -عليه أفضل الصلاة والسلام- لأمة معينة من الأمم كما هي حال الأنبياء والرسل قبله، لكنه بُعِث إلى العالمين إلى يوم الدين، هذا فضلاً عن أن سنةً من سُنن الله في الخلق التعارف: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (الحجرات:13)، وقد جسدت الدول هذا المسعى الإنساني النبيل لتبرهن على اتفاقها على (القيم الإنسانية المشتركة) فسلطنة عمان مثلاً جابت دولاً وقارات برسالة السلام للعالم، كما أنها أعلنت في العاصمة الإندونيسية جاكرتا عام 2019 بمشاركة عالمية واسعة من دول ومؤسسات وأفراد مؤمنون بقيمة التعايش السلمي بين أمم الأرض وشعوبها.

وفي جلسة جمعتني بمسؤول كبير، قال لي: "من الجيد أن تتطرق إلى القيم الإنسانية وليس فقط القيم الإسلامية"، فقلت له: "إن الإسلام قد استوعب "القيم الإنسانية المشتركة"، وأنا أتحدى أن يأتيني أحد بقيمة من القيم يصفها بـ"إنسانية" لا يشملها الإسلام في قيمه".

على أنَّ شعار "القيم الإنسانية المشتركة" قد استخدم لترويج أفكار مؤدلجة ليس لها بالقيم الإنسانية المشتركة السامية من قبيل التسامح والتفاهم والعيش المشترك والتعاون والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان...وغيرها من القيم الرفيعة التي تهدف لكرامة، وعزة، وحرية الإنسان، بل هذه كلها غطاءات لأفكار شاذة عن الفطرة الإنسانية، ومنحرفة عن المنهج الرباني القويم، يقول بدران مسعود بن الحسن في مقالته: "القيم بين العالمية الإنسانية والخصوصية الثقافية": "علينا أن نعي تماماً أن كثيرا مما يروج له على أنه قيم عالمية يفتقر إلى معايير العلمية: عقلاً وشرعًا وفطرةً؛ ولهذا فعلينا إما أن نحتكم إلى معايير عالمية متفق عليها أو كل يحتكم إلى ثقافته؛ لأن الثقافة فيها من الخصوصية ما يمنعها من أن تكون عالمية؛ لأنها مرتبطة بسياق اجتماعي وزماني وحضاري محدد، وليس فيها من العالمية إلا بمقدار ما تتضمن من عناصر إنسانية يمكن تعميمها موضوعيا وليس بأدوات الهيمنة".

إنَّ ما يُروَّج له في حقوق الإنسان في تحديد جنسه، وما يزعم بظلم المرأة، وحق التعبير والحريات والمعتقدات بأنواعها إنما هي مجرد شعارات في الغالب لأن من يروج لها هم من يدعون إلى الشذوذ الأخلاقي، والإنحراف الجنسي، والحركات النسوية، والإلحاد، فتنطلي حيلهم وزيغهم على من يقتفون أثرهم وهم صم بكم عمي لا يبصرون غايات هؤلاء المروجين، المدلسين على الناس لنشر الرذائل، والفوضى، والانحلال في العالم.

لنضرب مثالاً على منظمة تسمى منظمة شبكة القيم العالمية (The World Values Network)، دفعت مبلغ ربع مليون دولار لشغل صفحة كاملة في صحيفة نيويورك تايمز (The New York Times)؛ لمهاجمة ثلاث نساء شهيرات هن من أشد مناصري الشعب الفلسطيني خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة!

منظمة تسمى نفسها "منظمة شبكة القيم العالمية" تدفع مبلغاً هائلاً تهاجم فيه رأي نساء شهيرات أبدين تعاطفهن ومناصرتهن لشعب سلبت حقوقه من قبل محتل غاصب، فأي قيم عالمية تدعو لها هذه المنظمة إذن؟! ما هي القيم التي نتوقعها من مثل هذه المنظمة العنصرية العدائية الحاقدة أن تبثها في العالم وهذا فعلها الدنيء واضح للناس؟!

الغريب أنَّ الدول المهيمنة التي تناصر ترويج الأخلاقيات المنحطة والسلوكيات المنحرفة تحت غطاء "القيم الإنسانية المشتركة" وتدعي حرية التعبير، تصادر في الوقت ذاته حرية التعبير لدى من يرفضون هذه التوجهات المنحرفة، فهي مصرة أشد الإصرار على نشرها بذاءاتها وانحطاطها على رغم أنف الجميع مخالفةً بذلك شعاراتها في احترام الآخر، وتقدير الاختلافات بين البشر، وضاربةً في عرض الحائط معتقدات وثقافات وعادات وقيم ومبادئ الشعوب الأخرى.

لسان حال هذه الدول ينطق به ممثل أمريكي حين منعت دول إسلامية وغير إسلامية فيلم الأنيميشن "لايتيير" (Lightyear) الذي أنتجته شركة "والت ديزني"؛ حيث هاجم الممثل الأمريكي الذي يدعى كريس إيفانز الشخصية الرئيسية في الفيلم المنتقدين ووصفهم بــ"الأغبياء"، وأن "المعارضين للمشاهد المثلية في الفيلم هم في الحقيقة حمقى"! وهكذا هي النظرة في عمومها: إما أن تقبلوا هذه "القيم الإنسانية المشتركة" الضالة، وإما أنكم أغبياء وحمقى!! وفي لقاء مع رئيسة شركة إنتاج الرسوم المتحركة، كاري بيرك، وهي أم لطفلين أحدهما متحول جنسيًّا، والآخر ثنائي الميول الجنسية، كانت تبكِي فرحاً وتعبر عن سعادتها لتوجه شركة "والت ديزني" الجديد، كان رد المحاورة ميجين كيلي عليها واضحاً؛ حيث انتقدت التوجه الجديد لـ"ديزني"، واعتبره غير ضروري وتخطياً للحدود، وقالت صراحةً إنها لا تريد أن تمرر هذه الأفكار إلى الأطفال، خصوصاً وأنه يمكن صنع أفلام لتعليمهم أموراً أهم؛ مثل: اللطف، والتسامح، ومساعدة الآخرين.

هكذا يقع العالم إذن ضحية الأفكار الصريحة والمدسوسة التي تفرض على الثقافات أن تتبناها بمعاهدات عالمية، ورعاية أممية، ومنظمات لها نفوذها وسلطتها على الثقافة والتعليم والفن في العالم، وهو ما يفرض على الدول أن تُحصِّن رعاياها ضد هذه الشعارات المنحرفة تحصيناً قويًّا يجعلها قادرة على المواجهة والصمود.

... إنَّ أعظم كلمة قالها ولي العهد السعودي في وجه الرئيس الأمريكي: "لا لفَرْض القيم"، ولكل أمة قيمها التي يجب أن تُحترم، وقد كان ذلك أقوى رد مباشر في وجه الرئيس الأمريكي الداعم للشذوذ أكثر من أي رئيس أمريكي سابق!