قلم رصاص

نور بنت محمد الشحرية

طرأتْ برأسها فكرة وأرادت أن تكتبها، أخذت قلم رصاص لتكتب به، لطالما فضلت أقلام الرصاص، معها تشعر بالأمان، فمع القلم الرصاص لا خيبات ولا مُفاجآت غير سارة، تعرف متى سيلفظ أنفاسه الأخيرة وهو بين أصابعها، لن يتوقف فجأة ويخذلها إذا لم يكن لديها بديل عنه، ثم إنَّها ملولة وتغيِّر حجم خط القلم الرصاص كلما كتبت يعدُّ بحد ذاته تشويقا، ومع الرصاص تشعر بحجم الإنجاز الذي تمَّ كلما صَغُر حجمه تُدرك كم عانيَا سويًّا، وهو قلم مُتسامح وهي تحبُّ المتسامحين الذين لا يتصيَّدون الأخطاء ويعكرون الأجواء، كلما تراجعت عن كلمة أو جملة، وأرادت أن تمسح ما خطت به، فما عليها إلا أن تستخدم مِمحاة.

وقبل أنْ تتناول قلمها كانت قد جهَّزت لنفسها ما يلزمها لتمارس الكتابة في جو روحي وعقلي مُناسبين؛ فقرَّبت بعض الأدوات من على المكتب وأبعدت أخرى، وأسدلت الستائر على نوافذ الغرفة، لتستخدم نافذة فكرها فقط، المحيط وإن كان جميلا لا يسمح لأفكارها أن تسترسل مع القلم، عليها أن تمارس "اليوجا" وتستدعي ما برأسها بعد عقد الاتفاقية مع القلم أن يُطيع ويهرول كلما هرولت، ويتوقف لأخذ أنفاسه كلما توقفت، ناظرة بعينيها جانباً لتُفَاضِل بين بنات أفكارها أيهما الأفضل أن تسبق الأخرى.

في هذا الوقت، أصبح كلُّ شيء مُستهلكا، لا تجد أفكارك بسهولة، التقنية ومواقع التواصل، أتلفوا أغلب الأفكار، بين فيديوهات مرئية تُنشر على "اليوتيوب" أو "برودكاست" يُنشر على مواقع التواصل الأخرى؛ فذات الموضوع يحث ويشجع له أحدهم ويحذر منه آخرون، فهذا علاج ناجع عند أحدهم لمرض ما أو لسلوك ما، وما أن تمضي وقتك وأنت ماض في العلاج حتى يصلك تحذير منه من مختص آخر على اليوتيوب أو على مواقع أخرى.

لم يسلم أي شيء أو أي أمر من التناقضات، صار المتابعون والقراء مشتتين بين مُصدِّق ومُكذِّب، أعمت الشهرة والمادة الجميع؛ فصار الأغلب يهرف بما لا يعرف، لزيادة عدد متابعيه، تدريجياً نفر المتلقون من المتابعة والتصديق، شيء واحد لا يزال الجميع يتفق على تصديقه، وقد يخيب ظنهم، لكنه أسلم الأمور بالنسبة لهم، وهي العروض الترويجية والتخفيضات، يهرلون إليها دون تفكير ووقفة مع النفس، قبل الإقدام على شرائها واقتنائها، هل أحتاج لهذه السلعة فعلاً؟ هل العرض حقيقي؟ هل التاريخ المدوَّن ببطاقة البيانات الإيضاحية يخدم مدة استخدامي للسلعة؟ وهل تناسب ميزانيتي الشخصية والأسرية أن أشتري سلعًا لا أحتاجها لمجرد أنَّ سعرها مخفض؟ تساؤلات كثيرة لو أجابوا عنها لتردَّدوا كثيرا، ولسلمت الكثير من المحافظ من الهدر المالي، وكثير من الأنفس من ندم الشاري الذي يتبع كل عملية شراء غير ضرورية!!

نعود للقلم الرصاص الذي ينتظر فكرة ليكتبها، هو الآخر يمر بمرحلة صعبة، ويتجرع مرارة إهمال وفقد قيمته بعد أنْ تمكنت التكنولوجيا من كل شيء، وصار مُهدَّدا أكثر هو ورفاقه الأقلام مع تزايد الحديث عن الثورة الصناعية الرابعة، ولكن يبقى عزاؤه أنَّ الثورة لن تقضي على الإبداع الكتابي لأنه ليس مبرمجًا، وأن الثورة الصناعية سيصمُد أمامها كل ذي فكر وموهبة فنية وأدبية وعلمية؛ لأنَّ الآلة تصنع كل شيء إلا المواهب، يبقَى للقلم مخاوفه من أن يحل مكانه اختراع آخر يخط به الكتاب والأدباء نتاجهم الأدبي، كما حل الجلد والحبر وريش الطيور محلَّ الفحم والنحت على الحجر، وأتت الأقلام والأوراق لتقضي على المحابر والجلود؛ فالفكر يسخر لنفسه أساليب ووسائل الراحة، ولكن لا شيء يحل محله، وأن تنقلت البشرية بين مختلف العصور والثورات التاريخية والبشرية يبقى "مَنْ أُوْتِيَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوْتِيَ خَيْرًا كَثِيْرًا".

ولولا الفكر وطموحه لما هو أفضل، لما كانت الرفاهية التي يعيشها المواطن اليوم في الدول المتقدمة والنفطية أفضل من حال الملوك القياصرة والكساسرة وملوك بابل في زمانهم.

ولمن لديه فهم مبهم عن "رؤية عُمان 2040"، فإنها تُلخَّص بأنها تشجيع وخلق بيئة محفزة ومطورة لجميع المبدعين من مفكري أدب وفن وصناعة وعلم، ومواكبة للتسارع المعرفي والتقني في علوم التكنولوجيا والآلة التي ستحلُّ محل الإنسان في كثير من الوظائف، مما حدا بالحكومة إلى النهوض بشعبها فكريا وعلميا، ليبدأ بالتحوُّل التدريجي نحو العلوم والتخصصات التي ستكون مطلبَ المرحلة المقبلة، ولن يتأتَّى ذلك إلا بمجهودات مجتمعية وأهلية ومؤسسية مشتركة.

سيصمُد أربابُ السلاح فقط: العلم والقلم، ومن أخذ على عاتقه هم الوطن.

تعليق عبر الفيس بوك