23 يوليو.. أبرك أيام عُمان

 

 

خالد بن سعد الشنفري

كان يومًا في بداية نهاره كأي يوم روتينى رتيب يمر على عُمان في العام 1970 وما قبلها.

كأي طفل عُمانى فى التاسعة من عمره تكاد تكون المعلومات التى يتلقاها لا تتجاوز ما نسبته الـ10% من التى يتلقاها قرينه اليوم.

اليوم وبعد مرور 52 عاما، أسترجع ذكريات هذا اليوم وكأنه شريط سينمائي عَلِق بذاكرة بيضاء لطفل صغير، يُشاهد فيلما لأول مرة في حياته يعلُق بذاكرته، ويشكل مع توالي الأعوام الوجدان.. وجدان ابن "23 يوليو" التي ستسطر ملحمتها في كل حياته اللاحقه.

هذا ما كان يحصل معي وأقراني فى كل رقعه من عُمان من أقصاها إلى أقصاها. يحلو لي أن أقصها عليكم وأشارككم فيها.

فبعد أن رجعت من المزرعة ظهر ذلك اليوم من العام 1970، لتناول الغداء والقيلولة لأكمل بعدها الذهاب مره أخرى للمزرعة حتى وقت صلاة المغرب، لأعود بالعدد القليل من الأبقار من المزرعة إلى البيت، وما إن تحلَّقنا وتجمعنا كل العائلة على صينية الغداء، وفى هدوء مدينة صلالة المعهود آنذاك، والمغلف بالخوف وترقب ما هو أسوأ وقتها، طرق مسامعي أزيز طائرات السترايك ماستر الحربية وآليات عسكرية، فنهضت سريعا لأغسل يدى وأنطلق كالسهم من بيتنا في الحافة للشارع لاستطلاع ما يحدث.

لاحظت توجُّه العديد من الناس ناحية قصر الحصن المجاور للحافة، إلا أنَّ الحرس المدججين بالسلاح منعوا أيًّا من كان من الاقتراب.

سوق صلالة كان يقع داخل سور القصر؛ لذا تجمَّع الناس حول سوق الحافة للحوم والخضار والسمك خارج سور الحصن فى ترقب لما يحدث، لم يخطر ببالي نظرًا لصغر سنى أن أمرًا جللًا يحدث داخل أسوار هذا الحصن؛ لذا رجعت إلى البيت لأجهِّز حمارى والذهاب إلى المزرعة استعدادًا لرحلة العودة بالحيوانات من المزرعه إلى أحواشها بالبيت كالعادة يوميا. وهذا هو روتين حياتي وحياة العديد من أقرانى الذين لم يحظوا بفرصه للقبول بالمدرسة السعيدية الوحيدة بصلالة، والتى تستوعب عددًا لا يتجاوز الثلاثين طالبًا كل عام وليس للبقية منا سوى الكتاتيب ومساعدة الأهل فى أعمالهم.

بعد وصولى للمزرعة بفترة بدأ يلفت نظرى خلو مزرعتنا والمزارع المجاورة من أية حركة بشرية، وقد كانت تعجُّ بها عادة فى مثل هذه الأوقات، وقد كانت العادة أن يُعينني عمي أو جدى رحمة الله عليهما فى تجهيز الحيوانات لرحلة العودة إلى البيت، وتحميل الحمار بالحشائش لطعامها الليلى، ولا أستطيع القيام بذلك وحدي دون مساعدة، فانتظرت إلى بعد المغرب، أنتظر أحدًا يساعدني، وفجأة لمحت عمي قادما فيما يشبه الجري على غير عادته والابتسامة والفرح تعلوان محياة، وأسرع لمساعدتى ورجع إلى المدينة بنفس السرعة جريا، فسألته ما الذي جعله سعيدا وفى عجلة من أمره هكذا، فأجابني: "السلطان قابوس تولى الحكم فى عُمان بدل والده"، لم أفهم لماذا هذا يُفرحه هكذا، فباغتنى مضيفا: "والدك سيرجع من السفر والمساجين سيطلعون من السجون، فألحق بي مع الحيوانات سريعا، سأخبرك بكل الحكاية". وبرغم أنني لم أستطع تصوُّر أبعاد الحدث، إلا أنَّ معرفة أنَّ والدى -رحمة الله عليه- الذى لم أعد أتذكَّر ملامحه منذ آخر سفرة له إلى الكويت سيرجع وسأراه، وأن المساجين سيطلعون من سجنيْ حصن صلالة وجلالي مسقط، وهو أكثر ما عاناه العمانيون؛ فمعظم البيوت لا تخلو من سجين لها بأحد هذين السجنين، ومنها بيتنا، وأنا شخصيا تحملت عناء توصيل وجبتي الغداء والعشاء يوميًّا لعمي بسجن الحصن، ولم يكن قد مضى على خروجه منه إلا أشهر قليلة، بعد ان قضى عاما كاملا خلف قضبانه.

كانتْ جُملتا "طلوع المساجين" و"عودة والدي من السفر" كفيلتين بإشعاري بالفرح وبداية الانفراجات على عُمان على يد ابنها البار السلطان قابوس -طيب الله ثراه- توالتْ بعدها علينا الانفراجات لدرجة أننا كل يوم نصحو على خبر مفرح أو منجز يبرز بين أعيننا في شتى مجالات الحياة.

... إن "23 يوليو" بحق أبرك أيام عمان، ووجب علينا أن لا نجعله يمر علينا مرور الكرام، وعلينا شكر الله على نعمته علينا، والدعاء بالرحمة والمغفرة لفارس هذا اليوم، ودعواتنا الصادقة بالتوفيق والسداد لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أبقاه الله- الذي تسلم راية التجديد.

وكل عام والجميع بخير وسعاده وشكر.. فبالشكر تزداد النعم...،

تعليق عبر الفيس بوك