استمتع بعملك

د. سليمان بن خليفة المعمري

يقضي الموظف 8 ساعات يوميا في العمل أي ما يعادل 176 ساعة شهريا، أي ما يقارب 10 أعوام من العمل المتواصل لمن أكمل 40 عاما في الخدمة، والحق أنَّ قضاء هذا المقدار الكبير من عمر ووقت الإنسان وصحته وفكره في العمل ينبغي أنْ يصاحبه شعور بنوع من الرضى والمتعة والاكتفاء تجاهه، وأن يحقق من خلاله أهدافه ودوافعه وأمانيه التي يرجُوها نظرًا لتأثير ذلك على صحته النفسية والجسمية وهنائه وراحة باله، إلا أنَّ المفاجأة المدوية أن الدراسات المتعلقة بمدى متعة الإنسان بعمله وشعوره بالسعادة تجاهه تشير إلى أنَّ 63% من الموظفين يذهبون لأعمالهم بشكل آلي ولا يخبرون أي نوع من الشغف تجاه أعمالهم، وأن قرابة 87% منهم لا يجدون السعادة المنشودة من وراء العمل وذلك وفقا لاستطلاع قامت به شركة غالوب شمل ملايين الموظفين في أكثر من 142 دولة.

وإزاء هذا الواقع وحتى يشعر الإنسان بأهمية العمل والاستمتاع والرضا إزاءه كان لا بد من إيجاد قيمة للعمل في ذاته، وليس لما يكسبه الإنسان ماديا فقط فيما يعرف بـ"الدوافع الجوهرية"، وتطبيق المقولة المعروفة: "إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون"، وأن يستحضر الإنسان النية والأجر والمثوبة التي ينالها جراء العمل والسعي ليكسب الرزق الحلال ويعف نفسه وعياله عن ذل المسألة، ويتذكر على الدوام الحث الرباني الكريم على ذلك: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك:15)، وكذا التوجيه النبوي الشريف في الحديث الذي رواه أبو هريرة: "والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه"، وقوله عليه السلام: "من بات كالًّا من عمل يده بات مغفورا له".. وغيرها من التوجيهات.

والتعاليم الدينية التي تحضُّ على العمل والسعي وعدم التعالي والترفع عن العمل والكد مهما كانت بساطته، طالما أنَّه لا يقع ضمن دائرة المحظور، ولنا في أنبياء الله- عليهم السلام- القدوة والأسوة الحسنة؛ فها هو نبي الله نوح- عليه السلام- كان نجارا، وإدريس عليه السلام كان خياطا، وداوود- عليه السلام- حدادا، وعمل سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- في تجارة السيدة خديجة -رضي الله عنها- ورعى الغنم، كما أن العديد من القبائل العربية تسمت بأسماء الحرف والمهن والأعمال وذلك إعلاء لقيمة العمل فنجد قبائل الحداد والنجار والحلواني والزيات...وغيرها.

وقد تبوَّأ العمل مكانة رفيعة لدى الفلاسفة والمفكرين والأدباء وحظي باحترام كافة الناس وعابوا على العاطل الذي يقضي حياته سبهللًا دون عمل أو مهمة يقوم بها، فقد روي عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب قوله: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة"، ومما يذكر عن أرسطو قوله: "الاستمتاع بالعمل يضفي عليه المثالية"، وأما فولتير فيقول: "العمل يبعد عن الإنسان ثلاثة شرور: السأم والرذيلة والحاجة"، ولعل مما يجعل للعمل قيمة ومتعة سعي الإنسان لإتقان عمله وحرصه على تجويد أدائه ليخرج بأفضل صورة وأروع مثال فيكتب له الخلود والقبول لدى الناس ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:

أَيُّها العُمّالُ أَفنوا العُمرَ كَدّاً وَاِكتِسابا

وَاِعمُروا الأَرضَ فَلَولا سَعيُكُم أَمسَت يَبابا

إلى أن يقول:

أَتقَنوا الصَنعَةَ حَتّىأَخَذوا الخُلدَ اِغتِصابا

إِنَّ لِلمُتقِنِ عِندَ اللَهِ وَالناسِ ثَوابا

كما أنَّ من الأمور التي تعطي للعمل معنى وقيمة وتجعل الشخص يستمتع بما يعمل، شعوره بأنه يخدم وطنه ويقدم خدمة للإنسانية ويضيف للحياة من التطور والتقدم المنشود ويسهم في عمارة الأرض ونهضة وتقدم وطنه ومجتمعه، وكم هي جميلة تلك الجملة الشهيرة للرئيس الأمريكي جون كينيدي: "لا تسأل ما يمكن لبلادك أن تقدمه إليك، اسأل ما يمكنك تقديمه لبلادك"، فلتجعل أخي الكريم من وراء أدائك لعملك وقيامك بوظيفتك أهدافا سامية وغايات نبيلة؛ إذ إنَّ قيام الإنسان بعمل لا يجد من ورائه هدفا ويشعر دائما بأن لا خيار لديه إلا الاستمرار في دوامة لا تنقطع دون لذة واستمتاع من شأنه أن يشعره بالذلة والتعاسة وأنه محطم في نهاية كل يوم عمل، وعلى العكس من ذلك عندما يعمل الإنسان في وظيفة يشعر معها بالاكتفاء وأنها تغني كيانه وتحقق ذاته فإن حياته تكون أكثر امتلاء وثراء وهذا ينعش وقته ويجدد نشاطه حتى خارج ساعات العمل؛ إذ تشير الدراسات إلى أن الإنسان يختبر درجات عالية من اللذة فيما يعرف بحالة التدفق (flow state) عندما يقوم بعمل أو نشاط يحبه؛ حيث تسبح نفسه حرة في عمق اللحظة إلى درجة الابتعاد عن الشعور بالواقع ويشعر بمشاعر الأطفال أثناء لعبهم واستمتاعهم.

وختاما.. تذكَّر أخي الكريم أن العمل نعمة، وأن الحصول على فرصة عمل ثابتة في حد ذاته أمان وظيفي يفتقده الملايين حول العالم، وأنه إذا لم يكن عملك ممتعا للجيوب فليكن ممتعا للقلوب.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة