الأمم الأخلاق (7)

د. صالح الفهدي

الفعل أم ردة الفعل؟!

مرَّت سنوات ولا يزال ذاك النداء الذي علت به حنجرة مديرة مدرسة للبنات يتردَّد في أذني: "أنقذونا وإلا سنغرق".. عبارةٌ مليئة بالأسى والتحسر، أعقبتها بسرد قصص من واقع الحال الذي شهدته تلك المديرة التي تطلب الغوث، وهي قصصٌ لا يمكن الكشف عنها في مقالة إلا أنها تنبئ عن واقع تربوي يعاني من خلل كبير!

ورغم أننا نعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الخير راسخ في مجتمعاتنا، وأنه لا يفهم من مقدمتنا هذه التعميم، إلا أن طرح بعض القضايا الأخلاقية التي تدل على إشكاليات معينة يثير البعض، فيظن أنَّ هناك تهويلًا معينًا، بيد أن العاملين في المحاكم، أو المستشفيات أو المراكز الصحية أو السجون أو دور الإصلاح يُمكن أن يقدموا أدلةً موثقةً على الإشكاليات الأخلاقية التي تعتور المجتمع، وهذه لا تظهر إلا في مواضع معينة كالعلاقات الاجتماعية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمناسبات الاجتماعية المختلفة.

الإشكالية أنَّ المؤسسات المعنية بعواقب تردي الأخلاقيات لا تقوم بالفعل التثقيفي الإرشادي المسبق بصورة فاعلة وكافية، وإنما يقتصر عملها على الإستجابة على ردة الفعل فقط! وقد سألت إخصائيًّا في إحدى المؤسسات: ما الذي تفعلونه قبل أن تقع المشكلة الناجمة عن علة أخلاقية؟ قال: لا شيء! في حين أن القضايا الأخلاقية تشبه جبل الثلج في البحر لا يرى إلا ثلثه ظاهرًا، في حين ينغمر ثلثاه تحت الماء! وهنا أستحضر غرق السفينة (تايتانيك) التي اعتبر غرقها كإحدى أكبر الكوارث البحرية المميتة وقت السلم في التاريخ حيث اصطدمت بجبل جليدي عام 1912، حين كانت تسير قريبًا من سرعتها القصوى فلم يستطع الطاقم تغيير وجهتها بعد أن رأى المراقبون رأس الجبل الجليدي! ولنا أن نتمثل المجتمع في سيره كتلك السفينة الواثقة من قدراتها، وكفاءة بحارتها وطاقمها، يشق عباب الحياة بما يعتوره من مشكلات تملؤه الثقة بأنه محصن من الغرق بسبب المشكلات التي تعج في جوفه، حتى تصطدم سفينة المجتمع بذلك الجبل الأخلاقي الذي لم يتصور مدى عمقه وجسامته وقوته، ولأن المجتمع لا يمتلك أدوات الكشف العميق، ولا المناظير التي يستخدمها لرؤية الإشكاليات الناشئة، ولا المراكز الإجتماعية التي تحلل منحى سيره واتجاه، ومؤثرات اتجاهاته فإن سفينته ستصطدم لا محالة بالجبل الأخلاقي وستغرق!

ما الذي ألهم مديرة المدرسة تلك أن تقارب التشبيه الذي ذكرناه بندائها "أنقذونا وإلا سنغرق"، إلا أنها تدرك أن الغرق ينتج عن عوامل كثيرة منها إشكاليات تحيط بالسفينة، ونقص خبرة الطاقم، وشدة الأنواء والتيارات والعواصف المحيطة وغير ذلك.

حين تحدثتُ في سنة من السنوات عن اختلال في القيم نشهده في واقعنا، ثارت ثائرة أحد المستضافين، وكنا في المنصة معًا.. قائلًا: "إن قيمنا أصيلة، وعريقة وعصية على التأثيرات مهما كانت قوتها"!

وهب أنني أبالغ في حديثي آنذاك عن اعتلال أصاب القيم، ونخر لبها، فإن منطلق الفكرة عندي لها مرجعية فنية، والفن يعتقد بالمبالغة كأساس من أسس جذب الانتباه إلى المشكلة؛ فالتضخيم وحده هو القادر على لفت أنظار الناس إلى مشكلة ما، وحملهم على الوعي ثم المبادرة نحو التغيير.

على أنني لم أكن مبالغًا لأنني عادةً ما أستشهد في أعمالي بأمثلة تدلل على ما أشير إليه. أما اليوم، فأعتقد أن كثيرين يتفقون معي، ولا يجادلون في أننا نشهد أزمات أخلاقية أصبحت ظاهرة، وبينة لكنها بدت وكأنها مستعصية الحل.

وإذا استقرَّ فينا الاعتقاد بأنَّ الإشكاليات الأخلاقية عصية على الحلول عدا الجذرية التي تحتاج إلى مشاريع وطنية كبيرة، فإن هذا الاعتقاد خطير جدًا؛ لأنه يعني أننا نسلم بالأمر، ونترك للمؤثرات أن تحدد اتجاهاتنا نحو المسار الذي تريده.

لكنَّني أعود دائمًا إلى صناع السياسات التعليمية والتربوية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والثقافية لأقول بأن هناك من المجتمعات من نهضت بفضل معرفة الأولويات وتحديدها والالتزام بها معنويًا وماديًا ومنها سنغافورة، وهناك مجتمعات استطاعت إصلاح (الانبعاج) في سفينتها الاجتماعية؛ مثل: اليابان والصين؛ فالإصلاح إن توفرت الإرادة سيتحقق مراده، وتنال مقاصده، يقول شوقي:

وما استعصى على قوم منال *** إذا الإقدام كان لهم ركابا

إنَّ نداء مديرة مدرسة "أنقذونا وإلا سنغرق" يحق له أن يهز مجتمعاً بحاله؛ صناع قرار، ومؤسسات، وأفراد مجتمع، ولا يجب أن يذهب النداء إلى أدراج الرياح، كما ذهبت الكثير من المشاريع والأفكار لإصلاح "انبعاجات" في سفينة المجتمع!

وإن خامر اعتقاد صناع القرار بأن المشاريع المادية وأعني بها الإقتصادية بالدرجة الأولى لها الأولوية على المشاريع التي تبني الإنسان بناء أخلاقيًا؛ فذلك اعتقاد مشكل سيكون هو السبب في توسيع الشق على الراقع ذات يوم، إن نداء المديرة يشبه نداء "وامعتصماه"، لا يجب انتظار وقت نضج العنب حتى يبادر أهل القرار لنجدته، بل البدار البدار لأن الأخلاق هي مصير الأمة وأساس وجودها!