كيف ستحافظ أمريكا على عرشها؟

ناجي بن جمعة البلوشي

أمريكا هي الدولة العظمى الوحيدة بكل مقاييس التصنيف العالمية، وقد تسلمت هذه المكانة بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية، والتي بدورها وضعت فيها العالم تحت إمرتها، وعندما أقول العالم تحت إمرتها أعني كل دول العالم وكل ثقافاتهم وأفكارهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم...وغيرها من الأمركة العالمية، حين استبدلت كلَّ شيء فيها، وتحاول أن تستبدله في كل يوم يمضي.. فلا أنظمة شيوعية باقية، ولا أنظمة إسلامية باقية، كما لا اعتمادات لأي عملة سوى الدولار الأمريكي، ولا نظام اقتصادي سوى الرأسمالية، ولا لغة معتمدة عالميا في كل النقاشات والمخاطبات والاتفاقيات سوى الإنجليزية.. الثقافات الفكرية بدلَّتها أمريكا من ثقافات متوارثة تقليدية أو أعراف مستوحاة من الدين أو غيرها من الثقافات الفكرية، وقامت باستحداثات جديدة لثقافات وأفكار وطقوس وعادات وضعت لها أسماء ومصطلحات مقبولة، ثم سمحت لها بالدخول في كل دول العالم دون استثناء وبالقوة إذا احتاج الأمر إلى ذلك، التشريعات والقوانين والأحكام والحقوق وضعتها أمريكا حتى وإنْ صدرت من قبل دول أوروبا أو دول أخرى، فهي لحقت بها وبدأت تبديلها والتغيُّر فيها حتى صارت صناعة أمريكية، هكذا يبدو ما قامت به أمريكا وما ستقوم به في المستقبل إن بقيت على العرش حتى يكون العالم كله أمريكياً صرفاً.

قد يتبدَّل العالم بعد الأحداث الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، ويظن الكثير من الخبراء والمحللين أنها ستغيِّر وجه مستقبل أمريكا، وستضع له حدًّا وربما نهاية عندما يتكون العالم أحادي القطب إلى عالم فيه عدد من الأقطاب أو قطبين على أقل تقدير، وقد وضع الإستراتيجيون منهم روسيا والصين والاتحاد الأوروبي هذه الأقطاب الجديدة، إضافة لأمريكا، وهناك من يضيف إليهم بريطانيا الباحثة عن وجودها التاريخي. أما نحن، فنظن أنَّ أمريكا اليوم تصنع الفارق الحقيقي بينها وبين من يقتربون من العرش الأمريكي كالصين الاقتصادية أو الاتحاد الأوروبي المعرفي أو روسيا العسكرية؛ وذلك من خلال توجهها للانخراط في ثلاثة محاور مزدوجة تغيِّر بها وجه مستقبل العالم إلى الأبد؛ فالمحور الأول هو الاتحاد الأوروبي المسيطر عليه من خلال الشراكة الأمريكية في حلف الناتو، والذي بدوره سيتطلب الكثير من التعزيز في كل إمكانياته العسكرية المصنوعة أمريكيا؛ فيدفع لأمريكا الأموال الضخمة جراء هذا التعزيز، وعلى أثر قرارات رفع مستويات بعض الدول العسكرية كألمانيا مثلا لترفع أمريكا من مستواها الاقتصادي المستقبلي مما هي عليه اليوم، كذلك ستستفيد أمريكا مباشرة من أسعار النفط الصخري والغاز الطبيعي الأمريكي الذي تبيعه للاتحاد الأوروبي المحتاج إليه، بعد أن تسببت في صناعة إشكالية بينه وبين روسيا، ولأنه باهظ الثمن فإنِّه سيُخرج الاتحاد الأوروبي من المنافسة العالمية للنمو الاقتصادي؛ وذلك بعد تأثره بموجة التضخم وارتفاع أسعار المنتجين؛ مما سيؤدي لإغلاق مصانع وشركات واستثمارات كثيرة وهروبها إلى دول أخرى.. اللاجئون الأوكرانيون وسيول اللاجئين الآخرين من شمال إفريقيا والحدود الشرقية لأوروبا ملف خاص مستقل بذاته يدفع ثمنه الاتحاد الأوروبي، ويجب عليه التعامل معه وفقاً لمبادئ الاتحاد، مُواطنو الاتحاد الأوروبي وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار والتسريح من العمل...وغيرها من المشكلات الاجتماعية ملف جديد سيكون بمثابة موجة جديدة مع المظاهرات والانتقادات وربما الفوضى، التخلف الحضاري والعودة لاستخدام الفحم والطاقة النووية والبحث، وربما الاستثمار في الوقود الأحفوري من أجل الحاجة سيضع الاتحاد الأوروبي يواجه نفسه بنفسه.

ورَغم السيناريو المستقبلي المحتمل الذي سيشهده الاتحاد الأوروبي، إلا أنه في المقابل لا يمكنه الاستغناء عن أمريكا في هذا الوقت من الزمن الحاسم والمتداخل في الافتراضات؛ فروسيا على أبواب الحدود الشرقية من الاتحاد، ومعها من التقنية والقوة العسكرية ما قد يُمكنها من الوصول لكل الدول الأوروبية دون تحديد.

المحور الثاني الذي يُقابل أمريكا هو روسيا، وهو أبسط المحاور لديها؛ فأمريكا تعتبر روسيا أداة أو وسيلة لكسب محور الاتحاد الأوروبي الذي ذكرناه فيما سبق من سطور، وكل ما سيكون فيه هو تحويل روسيا جبهة ملتهبة أو غرفة عمليات طارئة تشتمل على كل شيء إستراتيجيا أو عسكريا أو اقتصاديا حتى تتوجه روسيا بدورها إلى خيارات وقرارات صعبة جدا ستعاني منها ويعاني معها الاتحاد الأوروبي كتحويل الطاقة من نفط وغاز إلى دول غير الاتحاد الأوروبي ونقص التبادل التجاري معه أو منعه من الاستفادة وإفادة روسيا مما تملك روسيا من ثروات ومعادن، ومما يملك الاتحاد الأوروبي من تقنيات وصناعات تساعد كلًّا من الاتحاد الأوروبي على النهوض الاقتصادي وروسيا على البقاء الاقتصادي والثبات في الحرب المستنزفة، إضافة للعقوبات.

أخيرا المحور الثالث؛ وهو: الصين العملاقة، وهذا يعتبر أعقد محور تتعامل معه أمريكا، وربما سيكون الأقرب لنهاية عرش أمريكا، بل وهو الأصعب في كل الملفات؛ فقضية تايوان ليست سوى قضية صك الغفران الذي ستحصل عليه الصين دون أي نزاع عسكري أو اقتصادي عاجلا أو آجلا، بعد أن تصل الحال إلى الذروة، ومنها إلى التسويات، لكنه في المقابل سيكون هو بمثابة الوثيقة الرسمية التي ستخرج الصين من تحالفها مع روسيا، والذي سليغي كلَّ الاتفاقات بينها وبين روسيا كالتوقف عن إمداد روسيا بأي شيء تحتاجه من التقنية والصناعة، والتوقف عن عقد صفقات شراء الطاقة والاكتفاء باستيراد كل شيء مما تحتاجه الصين من دول أخرى مُقابل فتح أبواب الاستيراد وإلغاء كل الضرائب والعقوبات عنها وعن منتجاتها التي ستعوضها أمريكا بها. وبعد أن تُبعدها عن روسيا سيكون على الصين اتخاذ موقف التسلح واستبدال منهج القوة الناعمة بالقوة الصلبة بعد التخلي عن روسيا، مما يعني أنه يجب على الصين أن تتأهب لمقابلة أمريكا وحدها، مما يستوجب عليها الدخول في حرب باردة، تبدأ فيها الصين بوضع ميزانية ضخمة للابتكار العسكري والتجارب والتسلح...وغيرها، كما يستوجب عليها نشر القواعد العسكرية والترسانات الصاروخية في دول عدة حول العالم، وهو ما سيكلف الصين مبالغ ضخمة ستغيِّر من قوتها الاقتصادية ونموها السريع. وبعد أن تدخل الصين في هذا الطريق وتمتد حول العالم سيتم فرض الحصار والعقوبات ورفع الضرائب عليها لتبدأ بالتلاشي من المشهد الاقتصادي، كما حدث للاتحاد السوفييتي من قبل، وهكذا تعود أمريكا التي استحوذت على عرش العالم أقوى مما كانت عليه، وهي في انتظار الصاعدين إليه من دول أو اتحادات.