نهاية التقسيم الطبقي

فوزي عمار

شهد التقسيم الطبقي الذي أسَّس له ماركس قديمًا تغيرًا كبيرًا جدًّا في هذا العصر؛ فعندما تحدث ماركس عن الوعي الطبقي كانت الشعوب تعيش في حالة تقسيم طبقي أفقي؛ فمثلا في فرنسا كان المجتمع ينقسم إلى عمال وأصحاب العمل والنبلاء. وكان تقسيمًا موجودًا في الواقع فعليًّا، مصحوبًا بالوثائق الدالة على ذلك، وليس تقسيمًا صحافيًّا أو مزاجيًّا مثل ما نشهده عندنا اليوم حين نصف طبقة بالبرجوازية فلا يوجد شيء فعليًّا يُسمَّى "برجوازي"، في حين كان ذلك فعليا وبالوثائق الدالة على ذلك قبل الثورة الفرنسية.

كل ذلك تلاشى مع عصر جديد، عصر حداثة أصبح فيه التقسيم عموديا وليس أفقيا (من وجهة نظري)؛ بمعنى أنْ تجد طالبا في درجة الدكتوراه -وهي أعلى درجة علمية- يعمل نادلا في مطعم، أو حامل حقائب في فندق، وهي طبقة كانت عمالية (بروليتاريا)، في مرحلة محددة تاريخيا.

اليوم.. هذا الطالب يعمل مؤقتا ليستطيع أن يدفع ثمن دراسته الجامعية وتخصصه الدقيق في الطب أو الفيزياء أو الاقتصاد أو القانون؛ فلم يعد ممكنا تصنيف هذا العامل على أنه من طبقة "البروليتاريا" المسحوقة، وهو قريبا سيُصبح أهمَّ من صاحب العمل نفسه.. هذا الطالب لا يُمكن بأي شكل من الأشكال أن يصنف بأنه من طبقة العمال، والمصنفة في عهد ماركس بأنها أقل حظا اجتماعيا من باقي الطبقات.

كلُّ ذلك أحدَث خلخلة في التقسيم الطبقي القديم، بل أصبح الطالب مالكا للسلطة من خلال المعرفة، كما قال المفكر البريطاني عالم الاجتماع آلفين توفلر في كتابه تحول السلطة: "المعرفة والعنف والمال مقومات السلطة الثلاثة".

كما أنَّ التقدم التقني وشبكات التواصل الاجتماعي خلقا نوعًا من الاقتصاد يُسمى بـ"الاقتصاد التشاركي"، وهو مثل مشاركة مالك السيارة وقت فراغه في عمل يدر عليه دخلا.. بغض النظر إن كان صاحب السيارة متعلمًا أم لا. وهي تجربة شركة أوبر (Uber) في أمريكا وأوروبا، كما أصبح بإمكان العامل أن يمتلك أسهمًا في الشركة التي يعمل بها، ولم يعد عاملا فقط بل عاملا وشريكا في نفس الوقت (وهي حالة جديدة لم تكن قائمة زمن التقسيم الطبقي الأفقي).

كما أنَّ كثيرا من المهن أصبحت تُدار بربوت وليس عاملا، بما فيها قيادة السيارة.. كل هذه التغيرات جعلتْ علماء الاجتماع يصنفون هذا العصر بعصر الحداثة المتأخرة، على رأي عالم الاجتماع البريطاني أنطوني جودنز.. عصر الحداثة المتأخرة ربط الإنسان بالتقنية التي حررته من سلطة الإقطاع ولاحقا سلطة الدولة، وأصبح يعيش الإنسان في اللا مكان؛ فلم يعد المكان ذا قيمة بعد نهاية التاريخ ونهاية التقسيم الطبقي.

 

جانب آخر شابَهُ تغيُّر كبير وهو الجغرافيا؛ عندما كتب الكاتب الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما أستاذ العلوم السياسية، وأحد أهم المفكرين المحافظين الجدد، كتابه "نهاية التاريخ"، قامت الدنيا ولم تقعد لهذا الكتاب الجدلي الذي أراد به الكاتب الأمريكي الوصول لنتيجة هي سيادة النموذج الأمريكي للسياسة والاقتصاد في العالم. ولكني أرى الموضوع من جهة أخرى أنَّ الأقرب إلى الحقيقة أنَّ العالم يتجه إلى نهاية الجغرافيا، وليس إلى نهاية التاريخ. فاليوم -خاصة في العالم الغربي من أمريكا وكندا إلى الاتحاد الأوروبي الذي يجمع معظم دول قارة أوروبا- لم يعد للجغرافيا معنى. فتجد من يُولد في لندن ببريطانيا وينتقل للعيش أو للتقاعد في إسبانيا أو اليونان، كما أنه لم يعد للشركات العابرة للقارات (overseas) مقر رئيس؛ فحيث جنة الضرائب هي أرضها.

وترسخ مفهوم ما بعد الدول (Post state)، فأنت تنام في قطار من روما حتى كوبنهاجن أو وارسو ولا يوقظ مضجعك شرطي جوازات يبحث عن تأشيرة.

ثورة الاتصالات قصة أخرى تصبُّ في صالح نظرية نهاية الجغرافيا، فلم تعد تحتاج إلى مقر قار، بل فقط عنوان إلكتروني مجاني على أحد محركات الإنترنت.. كما أن تحويل الأموال وحجز الفنادق والتذاكر أصبح متاحًا عبر جهاز محمول ذكي في حجم كف اليد. بل وأصبحت ممارسة الطب فيما يعرف بـ(Telemedicine) شائعا، خاصة مع الجيل الخامس 5G للجوالات.

كلُّ ذلك نتائج ثورة العقل في مجال الاتصالات واكبت تطلعات البشر من حرية.. تمامًا مثل نتائج انتقال المجتمع من مجتمع زراعي إقطاعي إلى مجتمع صناعي إبان الثورة الفرنسية التي حررت الإنسان. واليوم، الثورة العلمية الثانية التي قضت على الجغرافيا وحدودها ليعيش العالم الحر في نهاية الجغرافيا، والتي للأسف توحِّد المركز وتفتت الأطراف، ولا عزاء للشعوب التي ما زالت تعيش خارج التاريخ والجغرافيا معًا.

وعيد أضحى مبارك...،