موقف من الذاكرة

عبدالله الفارسي

أثبت التاريخ القديم والحديث والمعاصر أن لغة النفاق لغة عالمية معترف بها دوليًا، ولها مقعدها الرفيع في جميع الهيئات التابعة للأمم المتحدة، وتعد لغة ذات جودة عالية ومفعول ساحر في قلب الأوراق وتلميع الملفات والوجوه.. إنها لغة الخضوع والخنوع والانحناء والتردي، والسقوط والارتفاع!

سمعت كثيرا من المفوّهين والمتشدقين يقولون: إن لغة النفاق ما زالت متفوقة على الشهادة العالية والأخلاق الرفيعة والأدب الجم والنزاهة الناصعة والشرف الأبيض والكفاءة المتينة... وإنها تتقدم كل المهارات في مضمار تحقيق المكاسب وركوب المقاعد والاستحواذ على علامات النجاح والقبض على مراكز الرفعة والفلاح!!

هذه اللغة الملونة المزركشة استطاعت أن ترفع بيوتًا لا عماد لها، كما إنها تمكنت من هدم بيوت العز والأصل والشرف!

********

عندما تقدمت بطلب لدراسة الماجستير في عام 1995، رُفض طلبي وأُهمل؛ فكان مصيره إلى سلة المهملات العظيمة، وهي موئل ومستقر كل الطلبات والمطالبات والحقوق. فنصحني ناصح خبير بأن أستخدم لغة النفاق والتملق للحصول على موافقة سريعة على طلبي. وفعلا استخدمت هذه اللغة العجيبة ممزوجة بكل أصناف التزلف والتودد والكذب الأبيض والتي حققت بها طلبي خلال شهرين فقط. لقد أصبحت منافقًا عظيمًا خلال فترة زمنية وجيزة وحققت في تلك الفترة "النفاقية" مكاسب جمة وعديدة؛ حيث صدر قرار تفريغي لدراسة الماجستير اعتبارًا من الأول من يناير عام 2000، وينتهي في الأول من يناير عام 2002، قابل للتمديد والتمطيط والتوسيع والترقيع حسب قدرتي على الكذب ومهاراتي في استخدام لغة النفاق والتزلف.

********

أنهيتُ اجراءات قبولي بإحدى الجامعات الأسترالية في تخصص الإرشاد النفسي بجامعة ويسترن سيدني. وعُرض عليّ مكتب التنسيق الدراسي في مسقط السكن مع امرأة عجوز خمسينية لديها 3 غرف للإيجار؛ فوافقت مباشرة على السكن معها وحجزت غرفة واحدة مع تلك العجوز والتي تأكدت على الأقل بأنني سأضمن معها هدوئي واستقراري وعدم انفجاري الليلي الذي يباغتني على حين غرة ودون سابق إنذار.

********

حين انتهت إجراءات سفري وصدرت تأشيرتي وحجزت تذكرتي إلى سيدني، قمت بوداع كل من استحق الوادع وعانقت كل من استحق العناق، فرافقني صديقي السوداني عبدالفتاح إلى المطار مؤكدًا لي أنه سيلحق بي فور انتهاء فترة تعاقده مع وزارة التربية بعد سنتين، داعيًا لي بالنجاح والصحة وطيب الإقامة ولذة الحياة.

********

حضنني عبد الفتاح بقوة ودفء وكاد يبكي أمامي كطفل يودع أباه الحبيب الأثير.

لكنني مازحته قائلا: "شو يازوول.. شغل النسوان دا ما شغلنا!!".

فضحك بكل براءة السودان وطهارتها وطيبتها، وسار معي ماسكًا بحقيبتي حتى آخر نقطة يسمح لنا فيها بالوداع والعناق وهمس في أذني: "ابقَ هناك يا عبدالله ولا تعود أبدًا".

فهمست في أذنه: "لا أستطيع يا عبد الفتاح.. والله لا أستطيع أن أعيش إلا في الشقاء.. أنا مخلوق للشقاء يا صديقي".

فضحك عبدالفتاح بانشراح وقبلني قبلة ساخنة لم تنطفىء إلا حين دغدغني رذاذ سيدني وصافح وجهي نسيم ليلها العليل الأنيق.. وأُغرقت أنفي بروائح أشجارها الندية وأريج أزهارها الزكية!