مع دخول حرب أوكرانيا شهرها الخامس

أوروبا تدفع ثمن الحرب!

د. رفعت سيد أحمد

تدخل الحرب الروسية- الأوكرانية شهرها الخامس (انطلقت في 24 فبراير 2022) وروسيا- على ما يبدو- لا تستعجل لحظة الحسم وهي تستعمل لغة التدرج في قضم أرض وقوة الخصم بالتدريج وبدون ضربة واحدة قاضية، مع علمها أن جغرافية المواجهة أوسع من أرض أوكرانيا وأنها تمتد على مساحة الكرة الأرضية من الاقتصاد إلى السلاح إلى السياسة وصراع القوى مع حلف الناتو، وهي تسعى لامتصاص ضربات الأعداء وفق سناريو طويل النفس، تُصر روسيا فيه على أن يدفع الغرب- وتحديدًا الولايات المتحدة ودول أوربا المركزية (بريطانيا- فرنسا- ألمانيا)- الثمن الفادح على عدوانهم على أمنها القومي منذ 2014، مستخدمين الجارة أوكرانيا، ويبدو أن دفع الثمن قد بدأ.

فمنذ أيام بدأت ترتفع أصوات غربية،عبر وسائل إعلام مهمة، تعترف بالهزيمة أمام روسيا، مثل "بلومبرج نيوز" التي اعترفت بالهزيمة في دونباس وماريوبول. ومنذ أيام أيضًا، وخلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، نصح وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق هنري كيسنجر أوكرانيا بالتنازل عن أراضيها لإحلال السلام مع روسيا، داعيًا أوكرانيا- ومن خلفها المعسكر الغربي- للبدء في المفاوضات خلال الشهرين المقبلين، قبل أن تحدث اضطرابات وتوترات لن يتم التغلب عليها بسهولة. واعتبر كسينجر أنه من الناحية المثالية، يجب أن يكون الخط الفاصل هو العودة إلى الوضع السابق؛ لأن الاستمرار في الحرب بعد تلك النقطة لن يكون حول حرية أوكرانيا؛ بل حرب جديدة ضد روسيا نفسها، مشددًا على أن الفشل في استئناف المفاوضات مع روسيا، والاستمرار في تنفير الكرملين، سيكون له عواقب ضارة طويلة المدى على استقرار أوروبا.

وعلى ذات المعنى وفي 19 مايو 2022، كتبت هيئة التحرير في صحيفة "نيويورك تايمز" مقال رأي بعنوان "الحرب في أوكرانيا تتعقد وأمريكا ليست جاهزة"، توصلت فيه إلى نتيجة مفادها أن التفاوض على اتفاق سلام مع روسيا يصب في مصلحة أوكرانيا وأمريكا أيضًا، حتى لو كان يجب على الأخيرة أن تتخلى عن بعض أراضيها؛ لأن صراعًا أكبر له إمكانات خطيرة للغاية قد يحدث خلال الشهور المقبلة وستخسر فيه أوروبا وأمريكا الكثير. وذكر المقال أن مدير المخابرات الوطنية الأمريكية حذر لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي من أن الأشهر القليلة المقبلة من الحرب قد تكون متقلبة للغاية، وأنها قد تتخذ مسارًا لا يمكن التنبؤ به ويحتمل أن يكون تصعيدًا، مع احتمال أكبر بتهديد روسيا باستخدام الأسلحة النووية.

وعلى أرض المعركة ومصداقًا للرؤية السابقة التي تؤكد الهزيمة الأوكرانية رغم تدفق الأسلحة الأمريكية على من تبقى من الجيش الأوكراني الذي تم تحطيم بنيته العسكرية في أغلبها، تأتي تطورات ميدانية لتؤكد ذلك ففي الأسابيع الاخيرة، وكان التطور الأكبر هو تمكن الوحدات الروسية من السيطرة على مدينة "سيفيرودونيتسك" وتطويق عدد كبير من الجنود الأوكرانيين والوحدات النازية في معمل "آزوت" ضمن المنطقة الصناعية جنوب غرب المدينة، واحتفاظ القوات المُطوَّقة بعدد كبير من المدنيين كدروع بشرية، وهو نفس ما حصل في معمل "آزوف" في مدينة "ماريوبول"، علمًا بأن المعلومات كانت ترجح أن يكون عدد القوات المُطوقة بين 2000 إلى 2500 جندي ونازٍ، وفي الأخير تم السيطرة عليهم وهزيمتهم.

وكان لتقدم الوحدات الروسية في منطقة "كراسني ليمان" أهمية كبيرة حيث اقتربت من مدينة "سلافيانسك" وأسقطتها. وفي جبهة "سفيتلودارسك" استطاعت روسيا السيطرة عليها ما ساعد في تفعيل العمليات النشطة في جيب "زالاتويا" و"غورسكايا" والتي تمكنت الوحدات الروسية من تطويقها بالكامل ما يعني تثبيت نقاط ارتكاز ستمكن الوحدات الروسية خلال أيام من تغير معادلات الميدان والانتصار على القوات الأوكرانية والغربية الداعمة لها في مدن ليسيتشانسك وكراسناغورا وارتيموفيسك وكوستانتينيفكا ودروجكوفكا، وهذا يعني على الأرض والميدان التطويق الكامل لإقليم الدونباس والتقسيم التاريخي لأوكرانيا تماما مثل كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية.

أما على مستوى الساسات الغربية، فلقد بدأ الخوف الأوربي يظهر من تداعيات الحرب وبدأ قادة الناتو يعربون عن مخاوفهم من "شتاء صعب" ينتظر القارة، على خلفية انخفاض شحنات الغاز من روسيا، متعهدين بتكثيف جهودهم لتقليل اعتمادهم في مجال الطاقة على روسيا.

وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين بعد اجتماع لرؤساء دول وحكومات الاتحاد في قمة في بروكسل يوم الجمعة: "لقد راجعنا كل خطط الطوارئ الوطنية لضمان استعداد الجميع لاضطرابات جديدة ونعمل على خطة طوارئ لتقليل الطلب على الطاقة مع القطاع والدول الأعضاء السبع والعشرين"، موضحة انها ستقدم هذه الخطة في يوليوالحالي.

من جانبه، قال رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو: "سنواجه أوقاتا مضطربة للغاية، وربما يكون هذا الشتاء صعبا للغاية"، على خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والاضطراب في إمدادات الطاقة من روسيا.

وأكد دي كرو إن ما يجري هو "حرب اقتصادية ضد أوروبا، ويمكن الشعور بتأثيرها بشدة"، داعيا الأوروبيين إلى التكاتف. وحذر من أنه "إذا واجهت ألمانيا مشاكل، فسيكون لذلك تأثير كبير على بقية الدول الأوروبية".

كما دعت الدول السبع والعشرون المجلس والمفوضية الأوروبيين في خلاصات القمة إلى اتخاذ إجراءات أكثر تنسيقا .هذا وأكدت المعلومات الواردة من الاتحاد الاوربي أن  الاستراتيجية الأوروبية التي تم تقديمها في 18 مايو 2022 بقيمة 300 مليار يورو، تقوم على ثلاث ركائز: توفير الطاقة وتطوير مصادر الطاقة المتجددة وتنويع موردي الغاز والنفط.

ويؤكد الخبراء الدوليين أن الازمات الأوربية بدأت، وأن الثمن الباهظ لحرب أوكرانيا وإصرار أمريكا على التصعيد وعدم القبول بحل وسط يسمح بأن تحافظ روسيا على أمنها القومي الذي يهدده الغرب وبأن تكون أوكرانيا دولة محايدة.

الثمن يزداد كلفة وسيكون الشتاء القادم في أوروبا أكبر دليل على ذلك والذي سيؤكد أن أمريكا لم ترد فقط الحرب عبر الوكلاء مع روسيا والصين بل وأيضا أرادت الضرر الشديد بأوروبا وإخضاعها للإرادة الأمريكية بشكل مطلق وأن المستقبل القريب سيشهد داخل أوروبا ازدياد لحدة الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي حول تقاسم الغاز. كذلك حدة الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي حول درجة المشاركة في الحرب الأمريكية ضد روسيا في أوكرانيا.

الخلاصة الأهم كما تؤكد الوقائع على الأرض أن شتاء 2022- 2023 سيكون شتاءً باردًا في أوروبا، يقابله سخونة شديدة في السياسة وتبديل لخنادق الصراع وموت للعالم القديم وميلاد لعالم جديد متعدد الأقطاب وليس ذا قطب أمريكي واحد كما كان، وهو عين ما قاله بوتين خلال الجلسة العامة لمنتدى سان بطرسبورج الاقتصادى الدولى (17/ 6/ 2022)، قال: "إن العالم متعدد الأقطاب أمر لا مفر منه، وأولئك الذين يتشبثون بقيادتهم العالمية الوهمية مهما حدث يرتكبون خطأ فادحا"، ونعتقد جازمين أن ما قاله بوتين في هذة القمة هو أهم وأخطر ما قاله منذ اندلاع الحرب، وهو يمثل في تقديرنا النبؤة الكبرى التي تنتظر العام بعد هذه الحرب وأن على الجميع الاستعداد لها واستيعابها والعمل وفقا لمضمونها الاستراتيجي الكبير. والله أعلم.