مرتضى بن حسن بن علي
appleorangeali@gmail.com
تنفيذَ الرؤى المستقبلية لأي بلد للوصول إلى الأهداف المرجوَّة ليس عملا سهلا، وتحديد الأهداف والوسائل والإستراتيجيات والسياسات ومراقبتها ومراجعتها باستمرار للوصول إلى الأهداف المعلنة، هو تتويج جهود جادة لدراسة الواقع والمستقبل والفرص والتحديات، ومعرفة دقيقة للمقومات والإمكانيات المتوفرة، وتحديد نقاط الضعف والقوة، وتوفير جميع الإمكانيات المادية والبشرية لتحقيقها، والتمعُّن في المشكلات التي يجب إزالتها كي تسير العملية التنفيذية بسلاسة، وأن الأهداف قابلة للتحقق ومنسجمة مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية الحاصلة في البيئتين: الإقليمية، والعالمية.
عكس ذلك سوف تتحوَّل "الرؤية" إلى "رؤيا" -أي يتغيَّر حرف واحد فقط منها- فالرؤية يُمكن تحقيقها إذا توافرت الإدارة والإرادة، ولكن الرؤيا سوف تبقى حُلما في عالم الأحلام السعيدة! الوثيقة النهائية للأهداف لن تكون كافية لوحدها مهما كان القلم الذي دوَّنها فصيح اللسان.
كما أنَّ عملية تحويل النص والحلم إلى خطوات إجرائية ليست مجرد عملية جهد فكري وجدلي عبر الطاولات، بل أكبر من معالجة يجتهد البعض بأولوياتها عبر اللجوء إلى كالوس جانبي في غرفة هنا أو هناك. إنَّها أوسع مجالا من ذلك بكثير، ولابد أن تكون مُحصِّلة عمل وطني تستعين بكفاءات وطنية ودولية لكي تعطي معطيات قوية التأثير.
هناك أسئلة عديدة لا بد من طرحها قبل صياغة أهداف الرؤية؛ منها:
أ- أين نريد أن يكون البلد بعد عدد معين من السنين؟ وكيف يكون العالم في ذلك الوقت؟
ب- ما هي الظروف الحالية؟ وما هو المطلوب لبلوغ الأهداف المرجوة؟
ج- ما هي خطط العمل المطلوبة للوصول لتحقيق هذه الأهداف؟
د- ما الخطط الإستراتيجية وكيفية تطبيقها؟
هـ- كيف يُمكن تقييم الأداء باستمرار؟
و- ما هي التغييرات الضرورية في الأنظمة التعليمية والتدريبية والاقتصادية والإدارية والقانونية، التي يجب البدء بها فورًا لتساعد في الوصول إلى تلك الأهداف بطريقة منظمة؟
والسياسة التنموية هي في صميمها علم وفن إدارة موارد المجتمعات المختلفة والمتاحة والمحتملة؛ بما يُوفر لهذه المجتمعات صحتها ورخاءها داخل حدودها، وأمنها ومصالحها وراء هذه الحدود، وإدارة أية سياسة تنموية لتحقيق الأهداف المتضمنة في الرؤية، تتطلب ما يلي:
1- أن يكون هناك هدف أو أهداف عامة مرغوب فيها ومطلوب تحقيقها، وتكون هذه الرغبة وهذا الطلب موضع إجماع داخل السلطة التنفيذية ومُقتنعة بها، وعلى استعداد للعمل من أجلها، والبذل في سبيلها، وتحمُّل الآثار الجانبية المصاحبة، هذا الشرط لم يكن مُحققا في "رؤية 2020"؛ لذلك واجهت صعوبات عديدة أدت إلى إخفاقها في تحقيق الأهداف المعلنة.
2- أن يكون الهدف واضحًا ومحددًا؛ لأنه ليس أخطر في السياسة من الرؤى الغائمة، والحركات التي لا ترى لنفسها مقصدا واضحا تُركز عليه بصرها باستمرار.
3- أن تكون لهذا الهدف إمكانية فعلية أو مضمونة -أو على الأقل محتملة بنسبة عالية- تسمح بتحقيقه؛ فليس هناك فائدة من أهداف مهما كانت واضحة ومحددة إذا كانت الوسائل والأدوات الضرورية لتحقيقها ليست موجودة وليست محتملة أو غارقة في الشكليات والعموميات.
4- أن تتكفَّل الحياة العامة بأن تُعطي لإدارتها أصلح وأنضج العناصر المهيَّأة لتحمل المسؤولية -وطنية كانت أو دولية مشهودًا لها- وبما يوفر درجة معقولة من الكفاءة يُحقق للهدف حدًّا مأمونًا من فرص النجاح.
5- أن يكون أي هدف من أهداف الرؤية مُعبَّرا عنه بمقادير كمية ونوعية قابلة للمتابعة والقياس، والتحقق من قبل جهات رقابة كفوءة ومستقلة عن السلطة التنفيذية، ويكون من حقها الرقابة على إدارة العملية التنفيذية في مجملها، ومراقبة أية صعوبات أو انحرافات قد تحصل.
6- وضع إستراتيجيات وسياسات وخطط، كل واحدة تدفع بالأخرى لكي تتمكن من الوصول إلى أهدافها.
7- تكون الإستراتيجيات والخطط واضحة؛ فالهدف يستهدف الوصول لغايات ونتائج مطلوبة ومحددة في وقت محدد بشرط توافر الإرادة والإمكانات المالية والمادية والبشرية وقوانين وتشريعات مرنة وصديقة، وهو ينقسم إلى قسمين: الكمي والنوعي، وتُوضع له مقاييس محددة وواضحة، وبعد ذلك توضع الإستراتيجيات، أي التوجه العام المُصمَّم بعمل المؤسسة للوصول لأهداف معينة، أي فن التخطيط وإدارة الموارد المتاحة بأقصى درجات الفعالية للوصول إلى النتائج المتوخَّاة. أما السياسات، فهي مجموعة المبادئ والتوجهات العملية التي تحكم خط سير المؤسسة وأداءها متضمنة آليات اتخاذ القرارات، أي أنها بمثابة خارطة طريق واضحة. أما الخطط، فهي الإجراءات التنفيذية المحدَّدة أو مجموع العمليات المنظمة التي يجب اتخاذها في تسلسُل واضح، أي المراحل التفصيلية التي توضح أسلوب إتمام الأعمال، وكيفية تنفيذها ومسؤولية الجهات المختلفة لتنفيذها والفترة الزمنية اللازمة لكل عمل.
8- عند التفكير في إعداد الرؤية، يجب البدء بإيجاد طبقة عالية الكفاءة والمهارة من الخبراء والفنيين والإخصائيين المواطنين، عن طريق إرسالهم إلى أرقى الجامعات العالمية، وتدريبهم على أيدي أحسن الخبراء وأفضل المدربين، وفي أنجح المؤسسات.
9- البدء بإيجاد إصلاحات شاملة وجذرية في الجهاز الإداري للدولة ليكون ذا كفاءة عالية وبيروقراطية شبه منعدمة، لكي تسير العملية التنفيذية بسلاسة.
10- وضع سياسات مدعومة بقوانين وتهيئة الاشخاص واجهزة مراقبة الاداء والمال العام عبر أنظمة الحوكمة والمساءلة والمراقبة والمحاسبة.
11- إيجاد قطاع خاص قوي وإنتاجي ومتنامٍ والتحالف معه، واتباع كل الطرق والوسائل والتشريعات لجذب الاستثمارات الأجنبية وإيجاد بيئة صديقة لجذبها؛ ومن ضمنها: قوانين عمل صديقة ومرنة، وخلق قوة عمل عالية التدريب والإنتاجية وتتمتع بأخلاقيات عمل عالية، وإعادة تدريبها باستمرار.
12- وضع أفضل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتدريبية، وإضعاف سطوة العادات والتقاليد الاجتماعية المُعرقِلَة للتنمية، وزرع عادات وقيم جديدة محلها تتناسب مع الأهداف المرجوة.
13- التعرُّف بدقة والتعامل مع مكامن الضعف في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية؛ حيث إنَّ نجاح الرؤية أمر مرتبط بصلاح هذه الهياكل.
14- إعطاء أهمية كبيرة للبُعد القطاعي في التنمية الشاملة عن طريق تطوير كافة القطاعات معًا، دون تقديم قطاع على آخر، واتباع أسلوب المشاركة القوية مع أصحاب المصلحة في عملية صنع القرار.
15- إيجاد تنسيق كامل بين كلِّ الوزارات والهيئات لتُسهم في عملية صنع السياسات، وإيجاد أرضية مشتركة لحل المشكلات العامة؛ من خلال إدارة بنّاءة للاختلاف وتصميم السياسات، وربط الجهات المسؤولة رأسيًّا وأفقيًّا للتعاون والتنسيق، إضافة لإشراك الجهات الفاعلة المحلية في التنفيذ.
16- العمل بكل الطرق لتجنب حدوث مراكز للقوى، المؤدية للصراعات المستمرة حول شرعية السياسة والمهمة التنظيمية؛ إذ إنَّ تصميم وتنفيذ السياسة عملية متكاملة ضرورية، وليست مجرد سلسلة من المراحل المنفصلة، بهذه الطريقة يُمكن إيجاد أرضية مشتركة كافية للمضي قدمًا إلى الأمام، وتجنب قيام مسؤول ما بالنظر إلى المشكلة على أنها "مشكلة شخص آخر أو جهة أخرى".
17- إعداد المهارات الوطنية المطلوبة لكل مشروع، وتقديم أعلى مستويات التدريب لها، وفي أرقى الجامعات وأفضل معاهد التدريب ولمدد كافية؛ بحيث يكون جميع الموظفين المواطنين في أعلى مراحل الجهوزية وقت اكتمال أي جزء من المشروع.
وإضافة إلى ما سبق، فإنَّ إيقاع الزمن الذي نعيشه فيه داعٍ يسبق غيره من الدواعي التي تفرض الحذر في أي تناول لمدة طويلة جدًّا، ولقد كان هذا صعبًا في كل الأزمنة، وهو بالتأكيد أشد صعوبة في هذا القرن الذي دخل إلى عقده الثالث؛ حيث السباق على أشده في العلوم والتكنولوجيا وتطبيقاتها، وفي الأفكار وانتشارها، وفي العوالم واتصالها، وفي العادات والتقاليد وتبدُّلها، وفي الاحتياجات وتغيُّرها، والأجدى أن يكون النظر إلى خمس سنوات أو عقد على الأكثر؛ لأن أكثر من ذلك صعب مع بقاء الأهداف العامة ثابتة.
وإذا نظرنا إلى مجال واحد فقط مثلا، وهو مجال المواصلات والاتصالات، وما طرأ عليه من معدلات التراكم في السنوات الأخيرة، لرأينا صورة باهرة لحركة التغيير. فإذا وضعنا معدلات التراكم وتأثيراتها المتبادلة في كل النواحي لأدركنا صعوبة استطلاع المستقبل بحدود معينة بقدر كاف من الثقة وشبه اليقين، والأهداف والإستراتيجيات والسياسات والخطط تكون في حوار مستمر مع الأحداث والأطراف والزمن.