بعبع البصمة وطائر الرحمة!

 

 

عبدالله الفارسي

 

منذ فترة بعيدة كتبت عن الإنسانية تلك الصفة الرفيعة النادرة والتي تشتهيها كل تفاصيل حياتنا ومفاصلها وعروقها وشرايينها وأوردتها والحديث عن الإنسانية حديث طويل وجميل وذو شجون.

وأوضحت في أكثر من سطر وفي أكثر من مقال بأننا لا تنقصنا الثروة ولا ينقصنا المال ولا تنقصنا المعادن ولا تنقصنا المياه ولا تنقصنا الأرض الخصبة ولا تنقصنا العقول النيرة وإنما ينقصنا شيء واحد فقط لو توفر لدينا لأصبحنا في وضع معيشي وحياتي مثالي وراق ورائع للغاية.. الشيء البسيط الجميل الخفيف الذي نفتقر إليه هو "الإنسانية".

نعم.. إننا نفتقر إلى الإنسانية وإلى الرحمة وإلى العاطفة الرقيقة المرهفة. وبنظرة بسيطة إلى مشاكلنا ستجد سببها الرئيس هو افتقارنا للإنسانية وجفاف قوانيننا منها.

لدينا رصيد من القسوة غير طبيعي يملىء أوراقنا وأدراجنا ومكاتبنا؛ فتسريح العمال الفقراء اليومي والمتكرر من وظائفهم قسوة غير طبيعية، كما إن شح التوظيف وازدياد طوابير الباحثين عن عمل قسوة غير طبيعية، وارتفاع الأسعار والصمت المطبق حياله قسوة غير طبيعية، وكثرة الفقراء وتكاثرهم وتناسلهم سببها القسوة غير الطبيعية.

لن أتطرق إلى التحليل السيكلولوجي والسوسيولوجي لظاهرة القسوة؛ فهذا يحتاج إلى صفحات لمناقشته وتحليله وتفسيره، ولن أستخدم هنا مصطلح القسوة وإنما سأستخدم مصطلحا ألطف وأرق وأخف وطأة وهو مصطلح "الصرامة والشدة"، وسأعرض عليكم جانبًا واحدًا خفيفًا وظريفًا لهذه الغلظة والصرامة التي نتمتع بها.

وهنا أنا لا أتهم أحدًا بعينه، ولا ألوم مؤسسة أو هيئة حكومية بذاتها على هذه الصرامة والشدة، ولكني أتهم الأوراق، وألوم الحبر الذي كُتبت به القوانين الصارمة المغلظة بكل بنودها وأشكالها.

*****

سأتحدث عن وزارة التربية والتعليم، كوني أنتمي إليها منذ ردح طويل ثقيل وعصيب من الزمن، وأنا حتى اللحظة غير متأكد هل وزارة التربية والتعليم- وهي الوزارة المعنية بالتربية والسلوك وتعزيز العاطفة وغرس الحب وبذر القيم والمبادئ الإنسانية في نفوس النشء وقلوب الناشئة- هي المسؤولة عن بعض هذه القوانين الصارمة المشددة المغلظة؟ أم إن المسؤول الذي منحته الوزارة الصلاحية الكاملة والمطلقة هو المسؤول المباشر عن هذه القضية؟ فهو الذي منحته الوزارة حرية استخدام "الرأفة" أو عدم استخدامها مع مرؤوسيه من المعلمين والمعلمات.

*****

 

عامنا الدراسي ينتهى فعليًا بتاريخ 31 مايو مع نهاية اختبارات الصف الحادي عشر، وتبقى هناك اختبارات الدبلوم العام، وتلك لها لجانها ومراكزها وتكاليفها وجداولها الخاصة. والدوام الرسمي- حسب قرار وزارة التربية والتعليم- ينتهي فعليًا بالنسبة لأعضاء الهيئات التدريسية والإدارية يوم 7 يوليو؛ فهناك أكثر من شهر بين الانتهاء الجزئي للعام الدراسي يتخلله دخول الطلاب وهيئات التدريس في مرحلة امتحانات نهاية الفصل الثاني للدبلوم العام. وفي هذه الفترة تكون هناك مجموعة كبيرة من المعلمين في وضع متفاوت؛ فالبعض لديه مراقبة امتحانات طلبة الدبلوم العام، والبعض لديه تكليف بتصحيح الامتحانات، وهناك مجموعة كبيرة ليس لديها أي تكليف أو عمل نهائيًا، بعد أن سلموا كل ما عليهم من أوراق وشهادات ونتائج وتقارير لإدارة المدرسة وأقفلوا حقائبهم وحواسيبهم وأدراجهم.

هنا نلاحظ سنويًا حدوث تفاوتات في معدل "الإنسانية"، بين إدارة تعليمية وأخرى، كما يصل إلى أسماعنا دائمًا، وأيضًا هنا أقول إنني لستُ على يقين من هذه النقطة، لكني متأكد تمامًا أنني قابلت معلمين ومعلمات من مناطق مختلفة تم إعفاؤهم من الحضور إلى المدارس منذ نهاية شهر مايو الماضي، بعد أن سلموا تقاريرهم النهائية لإدارات مدارسهم، وهؤلاء تم حمايتهم من ما يسمى "بُعبع البصمة" المخيف المرعب! ومُنحوا الإعفاء الكامل من الحضور والبصمة، وعادوا إلى ولاياتهم سالمين غانمين مستمتعين بإجازتهم الصيفية الساخنة.

*****

لكن هناك فئة كبيرة ما زالت تعاني من "بعبع البصمة"، هناك مجموعة كبيرة جدًا من عباد الله المعلمين والمعلمات تقطع يوميًا مسافات ماراثونية مُتعبة ومُرهقة؛ لتضع أصابعها على "البصمة" فقط وتبصم لمدة ثانية واحدة ودون أن تطفىء محركات سياراتهم، ثم يعودوا أدراجهم مرة أخرى لقطع ساعة كاملة أو ساعتين وعشرات الكليومترات في رحلة العودة إلى منازلهم.

معلمات حوامل يقطعن عشرات الكيلومترات يوميًا لأجل عيون البصمة فقط.. معلمات مُرضعات يقطعن عشرات الكيلو مترات يوميا "كرمال" البصمة فقط! معلمون يقطعون مسافات طويلة لأجل البصمة فقط، وفي درجات حرارة كارثية تتجاوز 50 درجة مئوية. والجميع كلهم دون استثناء عرضة يومية لحوادث الطريق ومصائبه وفواجعه.

السؤال: أين الإنسانية في قيمنا وقراراتنا التربوية؟!

أعتقد أنه لا يختلف اثنان على أن العام الدراسي ينتهي بنهاية أعمال وتكاليف المعلمين وغياب الطلاب. فلماذا يُجبر المعلمون والمعلمات غير المكلفين بالمراقبة أو تصحيح امتحانات طلبة الدبلوم العام على الذهاب لمدارسهم بعد تسليم تقاريرهم لأجل البصمة فقط؟!

مدارس خالية فارغة ليس فيها شيء يَعمل سوى جهاز "البصمة".

ألا يمكن تحويل ونقل البصمة الإلكترونية إلى أقرب مدرسة من سكن هولاء المعلمين والمعلمات؟ لماذا نسمع أن هناك إدارات تعليمية أعفت الكثير من معلميها ومعلماتها من البصمة منذ تاريخ 31 مايو الماضي وهم يستحقون هذا الإعفاء عن جدارة واستحقاق واستعطاف؟! بينما هناك إدارات تعليمية ما زالت تهدد وتتوعد وتلوح بالبصمة في وجوه معلميها، وإلا الخصم من الراتب لا محالة!

لماذا هناك إدارات تعليمية استطاعت أن ترجح كفة "الرحمة" على كفة "البصمة"؟! وهناك إدارات تعليمية نصرت بعبع "البصمة" على طائر "الرحمة"!

لماذا لا يُعطى مدير المدرسة الصلاحية الكاملة لإعفاء أو إبقاء معلميه في تلك الفترة الجامدة الميتة من العام الدراسي؟!

*****

هناك قصص غريبة ومواقف عجيبة نسمعها يوميًا عن بعبع البصمة وآثاره النفسية والاجتماعية على كثير من أعضاء هيئة التدريس. ألا تستطيع وزارة وزارة التربية تقنين هذه الفترة من نهاية الامتحانات حتى نهاية العام الدراسي الفعلي بطريقة رحيمة وجميلة ورؤوفة وسن قرارات مطرزة بالإنسانية والرحمة والمراعاة لظروف أعضاء هيئة تدريسها الذين يعانون ما يعانون من الضغوط والجهد والإرهاق نتيجة كثافة الحصص والأنشطة طوال عام دراسي كامل؟!

ألا تستطيع وزارة التربية والتعليم تغليب طائر "الرحمة" على بعبع "البصمة" في نهاية كل عام دراسي فقط؟!

*****

ختامًا.. أحبُ أن أؤكد أننا بالانسانية -فقط- نستطيع تحقيق النجاح والتقدم والرفاه؛ لأن الإنسانية هي مصدر الحب الرضى والعطاء، وأي عمل لا يكتنفه الحب ولا يخالطه الرضا، حتمًا ستكون خاتمته الفشل والعرج والسقوط والاندثار.

أعتقد أن معلمينا ومعلماتنا في كل بقعة من هذا الوطن العزيز يستحقون مزيدًا من الرأفة وكثيرًا من الرفق. وكما قيل: "ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وجمله، وما خلا الرفق من شيء إلا شانه وقبحه ولوثه".