تابع: الجثّة رقم 1025

 

فاطمة اليمانية

 

 

"قال لها: أبلغي زوجتي أنّني أحبها.

وقال آخر: لديّ ثلاثة أطفال في البيت".

الممرضة آشلي براون

 

*******

  • ما الأبد؟!
  • أطول مدّة زمنية في ذهني!
  • لا شيء يسمى الأبد في هذه الحياة!
  • وابني؟!
  • صلّة الأرحام، علاقات واهية يظهرها الموت على حقيقتها!

وعندما رفعت الممرضة الغطاء من على وجهها، مسحت دموعها بلمسة حانية، وقالت معاتبة، وكأنّها صديقة من صديقات العمر:

  • لم الدموع حبيبتي؟

ضحكت زميلتها:

  • إنّها ميّتة!
  • روحها حيّة، تسمع ما يدور بيننا؛ فانتقِ ألفاظك!
  • مجنونة! هذه قطرات بخار، تكوّنت حال تعرض جثتها الباردة للحرارة.
  • دموع يا وداد.. دموع.
  • تأثير الإنهاك من العمل في غرفة تغسيل الموتى!
  • بل الحقيقة التي لا تصدّقينها.. يا ملاك الرحمة!

ثم سكبت على جسدها ماءً باردا وهي تذكر اسم الله، وتدعو لها بصوت دافئ حنون مليء بالخشوع أدعية أشعرتها بالسكينة، وتناغمت مع رائحة الكافور في أنفها.

  • المطهرات؟
  • والعطر؟
  • والوهم؟
  • ودموع ابنها الذي يبكي بحرقة وأسى.

 شعرت بدموعه تغرقها ولم يكن أحد هناك.. لم يكن ثمة أحد!

كان يرتجف خائفا في زاوية من زوايا الغرفة بعد أن هوى والده على جسده النحيل بعصا غليظة يلقنه درسا في الأخلاق التي يسمع عنها ولا يعرفها! قدّم ابنه قربانا لزوجته! وبكى الصغير ليلتها وحيدا جائعا بعد أن حدّقت زوجة والده في وجهه شامتة:

  • أمّك ماتت.. قتلها كورونا!
  • كاذبة.
  • العقبى لك.

أغرقتها الممرضة بخليط من رذاذ الكلور والمعقم أعاد الحياة إلى جسدها، أو هكذا شعرت.. وقالت لها:

  • إلى الجنّة!

فسارت ساحبة الرداء الأبيض، وتدلى طرفه؛ فداست عليه؛ لينكشف جزء من ذراعها!

سمعت صوتا من بعيد:

  • احتشمي!

رفعت الرداء وسترت ذراعها، ثمّ اقترب منّها رجل يرتدي كِماما أبيض اللون:

  • أنتِ مصابة بكورونا؛ فاتجهي إلى تلك البوابة.
  • ماذا إن رفضت؟
  • لا مجال هنا لافتراض شيء آخر غير القبول!
  • وإذا رفضت؟
  • هل متأكدة أنّك ميتة؟
  • ما رأيك أنت؟
  • تجادلين كالأحياء!

أحسّت بالخزي.. أن تكون ميتة، ولا تنتمي لجماعة الأموات! يشبه تماما شعورها عندما كانت على قيدِ الحياة، ولا تنتمي للأحياء!

كانت تعيش في عزلة، وتحيط نفسها بعدد محدود من الأصدقاء اضطرارا وليس حبا، وها هي الآن عالقة في هذا المكان الشفّاف.. عالقة في الفراغ، وأفاقت من حالة الذهول، وهي تحدّق في هذا العالم الهلامي على رائحة عطر مألوف، عطر يشبه عطر أحد أحبّته في حكاية ما:

  • أنت!
  • نعم هو! اقتربي!
  • كورونا..
  • وإن كان؟ اقتربي.

لم يكن عناقا؛ فالأمر أكبر من ذراعين يطوقان جسد.. وأكبر من أنفاس لاهثة سكنت على هدهدة نبضات قلب عاشق.. فعناق الأرواح شيء آخر لا يدركه سوى الأموات!

فاقترب الرجل ذي الكمامة مستنكرا:

  • ألا تخشى العدوى؟
  • سنغادر الآن!
  • {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[1]
  • سنغادر.

جذبها من يدها:

  • اتبعيني..

واقتربا من بوابة قاتمة.. فتحها:

  • ادخلي بقدمك اليمنى.
  • هل يؤثر ذلك على حقيقة كَوْنِي ميّتة!
  • أنتِ لا تموتين أبدا!
  • حسنا.. لن أجادل بعد الآن.
  • ساعة على الأقل.
  • هل يوجد في هذا المكان زمن؟
  • المهم الشعور!
  • من هؤلاء؟
  • ضحايا كورونا.
  • والكِمَامات؟
  • سؤالك يذكرني بالأسئلة العبيطة التي يطلقها بعض الأحياء!
  • اعتذر.
  • نعم.. استمري.. ثم اعتذري!

اقتربت منّها سيدة:

  • نجاة؟
  • لستُ نجاة.
  • من أنتِ؟
  • جثة رقم 1025.
  • تشبهينها.. كأنّك هي!
  • يخلق من الشبه أربعين!
  • بحرفية عالية!
  • الشبه؟
  • ونبرة صوتك!
  • صوتي؟
  • نعم صوتك!
  • أوليس الحديث برّمته تخاطر!
  • ما معنى تخاطر؟!

جذبها "القرين" من يدها وأبعدها عن السيدة، ثمّ مدّ يده لفتح نافذة مستديرة، وقال لها:

  • هذه نافذتك المطلة على الحياة لن يفتحها إلا الشوق، والشعور بالفقد، وستثبت لكِ هذه النافذة مكانتك في قلوب الآخرين!

اقتربت من النافذة.. وندهت بصوت مبحوح:

  • مرحبا.

لم تسمع صدى صوتها.. ولم يجب عليها أحد! أبعدَت رأسها من فتحة النافذة المطلّة على العدم! حدّقت حولها في المحيطين.. كان الجميعُ مشغولا بنافذته! فاقتربت من إحدى السيدات:

  • حاولت التواصل مع أمي.. أخي. شقيقتي.. صديقتي؛ لأخبرهم أنّ ابني يبكي، ويحتاج إلى مساعدة.. ولم يجبني أحد!
  • حاولي!
  • منذ متى وأنتِ هنا؟
  • منذ بداية الأزمة!
  • منذ العام الماضي؟
  • نعم.. أنا من أوائل الضحايا.
  • هل تواصلتِ مع أهلك؟
  • من الليلة الأولى.
  • حسنا.. سأعود للمحاولة.
  • هل أنتِ ميتة؟
  • يفترض ذلك!
  • تأكّدي!

وابتعدت السيّدة.. بل تلاشت.. هكذا تتنقل الأرواح بسرعة، وأريحية!

فعادت للنافذة.. وندهت عليه مرّة أخرى:

  • عبد الله.

فاقترب القرين متسائلا:

  • ألم يصله صوتك؟!
  • حاولت التواصل معه؛ لأخبره أنّي بخير.. علّه يكفّ عن البكاء؛ فلم يسمعني!
  • حاولي بلطف.. احكي له قصّته المحبّبة لنفسه قبل النوم.. أو تلك القصيدة التي تردّدينها على مسامعه، فترنّمت بكلمات قصيدتهما المفضلة:

ههنا، بين شظايا الشيءِ

والّلا شيءِ، نحيا

في ضواحي الأبديّةْ.[2]

 ضحك القرين:

  • نعم، أذكرها جيدا، هذه القصيدة التي لا علاقة لها بالأطفال.
  • كان يصمت عند سماعها.
  • لأنّه لا يعي كلماتها!
  • رغم ذلك حفظ نصفها، واتفقنا على أن يحفظ النصف المتبقي منها.
  • هكذا الموت يأتي بغتة.
  • ووعدت أمي بمرافقتها إلى العمرة بعد انتهاء الأزمة.
  • أعمالك المؤجلة كثيرة.
  • لو كانت لي فرصة للعودة.. لكنّ الموت لا يسألنا إذا كان الوقت مناسبا!
  • وهل تعتقدين بأنّ أعمالك هذه تعتبر ذات قيمة ليستثنيكِ الموت.. أو ليستشيرك؟
  •  لم يأخذ أحد رأيي في شيء.. كانت الأحداث التي أعيشها مفروضة فرضا عليّ! فأنا لم أختر دراستي ولا تخصصي.. ناهيك عن اسمي.. لم أختر أن أكون حياة!
  • ولا الجثة1025!
  • ولا قريني!
  • ولا قرينك! فعلا.. نفس شعوري!
  • ماذا تعني؟!
  • أمارس دورَكِ في عدم الرّضا عن كلّ شيء!

أرادت فتح نشرة للردح كالّتي كانت تعّدها في ذهنها عند مواجهة الأمور المستفزة! وتتخيل نفسها واضعة يديها على خصرها، وتطلق الكثير من الكلمات المتتابعة كطلقات الرّصاص؛ لتفحم الخصم وتشلّ قدرته على النطق! ولم يحدث مسبقا أنْ فعلتُ ذلك على أرض الواقع! لكنّها فرصة للتنفيس عن رغبتها المكبوتة، ولا تقدّر بثمن!

وبدأت فعليا تحرك شفتيها؛ لتنطق بأول كلمة هجوم على القرين؛ لكنّها عجزت عن النطق، وتلاشت صورة القرين، وتطاير العالم الهلامي كشظايا زجاجية متناثرة تخدش حاسّة الإدراك في دماغها؛ لتزداد الوجوه المحيطة بها وضوحا، فهي وجوه حقيقية من لحم ودم:

  • حياة!

فتحت عينيها؛ لتراهم متحلّقين حولها، وكان ابنها يردد القصيدة قرب سريرها، ثم توقف عند آخر سطر حفظه قبل إصابتها بكورونا:

نحن ما زلنا هنا

ولنا أحلامُنا الكبرى، كأنْ

نستدرجُ الذئب إلى العزف

على الجيتار في حفلةِ رقصٍ سنويّةْ.[3]

فأكملتُ ما تبقى من القصيدة:

ولنا أحلامنا الصغرى، كأنْ

نصحو من النومِ معافين من الخيبةِ

لم نحلمْ بأشياء َ عصيّة

نحنُ أحياءٌ وباقون.. وللحلمِ بقيّةْ

نحنُ أحياءٌ وباقون.. وللحلمِ بقيّةْ.[4]

 

(النهاية)

 

[1] [سورة البقرة: الآية، 195]

[2] محمود درويش، قصيدة (هنها، الآن، وهنا، والآن).

[3] محمود درويش، قصيدة (هنها، الآن، وهنا، والآن).

[4] محمود درويش، قصيدة (هنها، الآن، وهنا، والآن).