ريفي في جامعة السلطان قابوس (2- 5)

 

علي بن سالم كفيتان

 

كان الغداء دسمًا والمجلس لا يخلو من ضيوف عرف بعضهم عن خبر سفري للدراسة في مسقط وصار حديث المجلس بعد الغداء على صدى أكواب الشاي الأحمر؛ فمنهم من كان متحفظًا ونصحني بالالتحاق بالفرق الوطنية، بينما كان أحدهم متحمسا للفكرة وهو جدي الشيخ سعيد بن فدنوت، وبعدها انصرف القوم عني إلى مجلسهم ومواضيعهم التي غالبًا ما تكون عن المواشي وتوفير الأعلاف وزيارات السلطان للجبال وأمور شتى، بينما انفردت أنا بشنطتي أرتب أغراضها؛ حيث جردت كل الملابس من الأكياس حتى أتت أم محمد لتأخذها مني وتبخرها وتعطرها وهي مستبشرة بهذا التقدم، وخاصةً أنها كانت من أكبر الداعمين لي أثناء فترات الدراسة وتحديدًا في الاختبارات؛ حيث كنت أذاكر أحيانا على السطح لتجنب زحمة البيت وضجيج المجلس في الأسفل، ورغم كل الواجبات المنزلية، أكون في خارطتها فتأتي مبتسمة وتضع لي ترمس الشاي مع الحليب والخبز البوري الطازج عند باب السطح، بعد أن تدعو لي بالتوفيق وتعود أدراجها للأسفل؛ فهناك بعض الناس وجدت كالملائكة الذين يطوفون عليك ولا ترى منهم إلا خيرًا هكذا كانت أم محمد عليها رحمة الله.

سكن المساء في المدينة وارتفع الأذان من المساجد معلنًا حلول المغرب، ذهبت راجلًا في الحارة الجنوبية لعوقد الوسطى، وفي طريقي لمسجد التوبة انضم لي رجال دأبوا على تلبية النداء مثل: خالي سعيد بن نيشر وعمي أجهام بن مهوري والشيخ حسن صوقر -عليهم جميعًا رحمة الله- وبعد الصلاة يجلس الجميع على دكة المسجد ويتناولون أطراف الحديث، وكلٌ بمسبحته مع ابتسامات رضا وشيء من النكت المحببة حتى يؤذن للعشاء؛ فيفرغ الجميع من الصلاة ويعود إلى بيته وأنا خارج من المسجد صاحبت خالي أبو مسلم. وعندما وصلنا تحت البيت دعاني للدخول فاعتذرت منه، وأكملت الطريق إلى المنزل وقبل الوصول توقفت سيارة أبو سهيل العائد من مناوبته النهارية، سلمت عليه ودخلت عندهم؛ فهو الجار المقابل والصديق الوفي النصوح، لم أخفِ عنه فرحتي وأبلغته بخبر سفري لاستكمال الدراسة، ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة وبارك لي كعادته بحضن أخوي وبضع ضربات على الظهر. وبعدها جرَّنا الحديث لمنتصف الليل وزادت الجلسة لينضم لها أبو إبراهيم وغانم بن ذيبان وخالد جعبوب، كان الجميع مدخنين شرهين، وكنت الوحيد الذى لا أدخن بينهم؛ فعند عودتي أتخلص من جميع الثياب التي كانت علي لفرط رائحة الدخان وأرتدي غيرها، بحيث أقدر على النوم. كان جدي الشيخ سعيد بن فدنوت الوحيد النائم في المجلس انضممت إليه، بينما هو كان يسعل طوال الليل، فقد كان في تلك الأيام يعاني من مرض عضال ولكنه مقاوم شرس، فما إن يقوم الصبح إلا ويعود إلى كامل هندامه مرتديًا خنجره المميز ومرتبًا شعره الطويل تحت المحفيف (قطعة جلد يربط بها الرجال شعرهم)، بعد أن يتعطر ويتبخر ليذهب إلى مكتب الوالي أو يطلع إلى الجبل لعدة أيام قبل أن تسوء حالته ويعود للمستشفى؛ فكانت رحلته في تلك الفترة بين المستشفى والجبل وبيت أبو محمد لفترات النقاهة بعد الترخيص من المستشفى.

في اليوم التالي، ركبت الشارع ومن سيارة الى أخرى حتى وصلت قريتنا (أمبازجيه) في الريف هناك أعلمت والدتي وإخواني عن السفر فكانت لحظات صمت بعدها انفتحت التساؤلات عن المهمة والأخطار ومتى العودة، وكثير من الأشياء التي شغلت مخيلة إخواني، ولكن أبرز الفرحين كان أخي أحمد؛ فقد علمته القيادة للتو، وسوف ينفرد بقيادة الهيلوكس الحمراء؛ لجلب المياه من البئر واحتياجات الأسرة من الدكان الوحيد في طيطام. لقد كان شغوفًا بالقيادة شأنه شأن الجميع. وفي البداية كانت لدي بضع أيام قبل السفر، حرصت فيها على أن أزور كل الأرحام في زيارات لا تخلو من الفخر، بينما كان يسألني أهل القرية "متى السفر؟"، فأجيب: "الجمعة"، فيدعون لي بالتوفيق.

ومن المناسبات التي حصلت خلال تلك الفترة ولا يمكن نسيانها، عزيمة قدمها لي رفاق الدرب في القرية، وعلى رأسهم محمد الصيعري وأحمد زيدي وسعيد بن معشاق وأحمد بن ألوفخي، وكانت عبارة عن كبسة أرز بالصلصة والبصل مع التونة على إحدى القمم، وتحت أشجار التين الوارفة؛ حيث أُوقدت النيران، وأحضر كل واحد ما كُلف به، وطُبخت الكبسة على نار هادئة على خير ما يرام، وبعدها حبسنا بالشاي الأحمر، وكان مذاقه فريدًا مع رفاق الطفولة والصبا.

وللحديث بقية...