كُلُّكم راعٍ

 

د. صالح الفهدي

ليست القضيَّة أن تُنجِبَ الأَبناء بما يرزقك الله من عددٍ منهم، وإنَّما الواجب الأعظم هو أن تُحسن تربيتهم، وتُجيد تنشئتهم، وفق قيم وأخلاقيات تؤسس بها كيانهم الإنساني فتكوِّن فيهم قاعدة صلبةً، عصيَّةً على الضياع، وعتيَّةً على الإنحراف.

ويقول عبدالرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد": "خلق الله في الإنسان استعدادًا للصلاح واستعدادًا للفساد، فأبواه يُصلحانه وأبواه يُفسدانه، أي أنّ التربية تربو باستعداده جسمًا ونفسًا وعقلًا، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. وقد سبق أنّ الإستبداد المشؤوم يؤثر على الأجسام فيورثها السقام، ويسطو على النفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم. بناءً عليه، تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكلُّ ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الإستبداد بقوته، وهل يتم بناءٌ وراءه هادم؟".

لقد تعاظم واجبُ التربيةِ اليوم بأعظمِ مما كان فيما مضى؛ فالمؤثرات التي تتنازعُ الأَبناء من كل جانبٍ باتت ذات قوةٍ، وجاذبيةٍ، وإبهارٍ، في الوقت الذي ضعفت مفاهيم التربية لدى الآباء، فضلًا عن أنَّهم يقضون شطرًا كبيرًا من أوقات نهارهم في أعمالهم، ثم شطرًا آخرًا من ليلهم لدى أصحابهم، والأبناء لا يجدون وقتًا من آبائهم على وجهِ الخصوص، ثم هناك أمرٌ ثالثٌ هو ضعف القدوة الفاضلة للوالدين، وهو أحد أهم ركائز التربية.

إذن.. فالأبُ قبل أن يفتخرَ بعدد نسله، وعدد أبنائه، يُفترضُ أن يفتخر بتربيته لهم التربية التي تضمن لهم توجهًا أخلاقيًا سليمًا، واستعدادًا نفسيًا مستقيمًا، وشخصية متكاملة الأركان، متعامدة العناصر، وإلا فقد استحقَّ إجابة سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للرجل الذي شكى إليه عقوق ابنه: "أجئت إليّ تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك".

إنَّ حسن التربية مقدَّمٌ على كثرة الإنجاب، حتى وإن توفَّر المال والمسكن ووسائل الرعاية فإن التربية تختلفُ عن مجرَّد توفير الرعاية، فالتربية هي اعتناءٌ بتزكية النفس، وتقويم الشخصية، وتنشئتها على القيم والآداب والرفيعة، ورفد الشخصية بما تحتاجه من عوامل النضج النفسية والفكرية والروحية والعاطفية، وإلا فإن المسؤولية تقع على الوالدين في ترك الأبناءِ دون اهتمامٍ واعتناء يجدِّفون وحدهم وسط التيارات المتلاطمة فإما ينجوون وإما يغرقون!!

كم من آباء يفتخرون بالعدد الكبير من الأبناء ولكنهم لا يحسنون تربيتهم، ولا يجيدون تنشئتهم، بل يتركونهم على حالهم، ويسلمونهم لمصيرٍ مجهول، ومن المؤسف أن عالم اليوم يعجُّ بوسائل الإفساد أكثر من وسائل الإصلاح، والجنَّةُ محفوفة بالمكاره بينما النار محفوفة بالشَّهوات. ومن الطبيعة أن تميل النفس البشرية إلى شهواتها إن لم تضبط، وأهوائها إن لم تُحكم، فتنجرُّ وراءَ الشهوة لأنها مبهرة، وتتثاقل عن الطاعة والاستقامة لأنها مُتعبة، ولقد وجدتُ العدد الكبير من الأحداث في دار الإِصلاح ضحايا إهمال الوالدين، والطلاق وضعف التربية!!

إن عِظَم واجب التربية اليوم يكمنُ في الفخاخ التي وضعت لتصيُّد الأبناء فتقيِّدهم في محابس من الشهوات منذ بواكير أعمارهم، فها هي شركة والت ديزني التي عُرفت سابقًا بإنتاجها للشخصيات الطفولية المرحة، تتبنَّى سياسة الشذوذ الجنسي لتغرسه في عقليات الأطفال، وكم من شخصيات قبلها مثل "سبونج بوب" الفتى المائع الذي يعبِّرُ لقبهِ "الإسفنجة" عن صفاته المائعة، ليعكس هذه الصفات فيمن يتابعه عبر سنوات من المشاهدة الدؤوبة، والإعجاب الطفولي البريء، ناهيكم عن الألعاب الإلكترونية وما يدسُّ فيها من أفكار سقيمة، وتوجهات خبيثة.

وعظم واجب التربية أن يعتني الوالدين بحقوق التربية اعتناءً يفرضُ عليهم تعلُّم الأُسس التي تمكِّنهم من حسن تعليمهم، وإرشادهم، ولا شكَّ بأنَّ أجلَّ مهمَّةٍ هي ما ذكره الحق سبحانه وتعالى قائلًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6).

وهُنا أطرحُ أسئلةً علينا جميعًا أن نقف إزاءها كمربِّين، يجب أن يتحملوا المسؤولية الكاملة نحو تربية أبنائهم:

  • هل نمتلك الوعي الكافي بما يتهدد أبناءَنا من غزو فكري، ديني، أخلاقي؟
  • هل نغمر أبنائنا بالعاطفة التي تبعدهم عن الفراغ العاطفي؟
  • هل نحيطُ علمًا بعلاقات أبنائنا واهتماماتهم واتصالاتهم؟
  • هل نعتقد صدقًا بأننا قدوات حسنة لأبنائنا؟
  • هل قمنا بواجبنا في تعزيز القيم الفاضلة، والمبادىء الحسنة، والمفاهيم السليمة في نفوس أبنائنا؟
  • هل نحن راضون عن التربية الدينية والقيمية لأبنائنا؟

هذه أسئلةٌ أرجو أن يجيب عليها الوالدين آباءً وأُمهات؛ فالجميع راعٍ ومسؤول عن رعيته، كما جاء في الحديث الشريف، وعلى إِثرِ ذلك فلا مجال للتنصُّلِ من المسؤولية، والتبريرِ بالأعذار، فتكوينُ الأُسرة مشروعٌ له تبعاته ومقتضياته خاصة في هذا العصر الذي يستلزم تحصين الأبناء ضد التيارات التي ترمي إلى إرساء مفاهيمها المنحرفة، ومحاربة الفضائل، وتحطيم القيم، وتغيير العالم لما يتوافق مع هواها الضال، ومزاجها الفاسد، فهل نحن على قدر الوعي والمسؤولية؟!