مدرين المكتومية
أوفيليا هي فتاة النوم والموت، الفتاة التي ماتت لكنها ما زالت تعيش على لوحات الرسامين، ويحوم طيفها على فرشاتهم؛ فهي تعيش بين تقاسيم المشاهد الفنية والجمالية، تحيا بين الطبيعة التي غدرت بها، وبين الازهار التي أخذت منها لونها، وتقاسيم ابتسامتها الصامتة، والتي لم تقدها سوى إلى الموت المفجع.
إنها تفاصيل الموت بكل تجلياته؛ أن تموت في المكان الذي آمنت به، أن تموت بين الأشياء التي تحبها، أن تهديك الطبيعة لحظة موت تشبه اهتمامك بها، إنها أوفيليا إحدى شخصيات مسرحية هاملت للمخرج والكاتب ويليام شكسبير، تلك الجميلة التي ذهبت ذات يوم لتحصل على حياة أخرى، ويجازيها القدر بأن يسرقها بصورة خاطفة، لتنتهي حياتها، وتبدأ حياة جديدة بريش الفنانين ولوحاتهم الرائعة.
موت أوفيليا يذكرنا بالأميرة النائمة؛ صحيح أن أوفيليا ماتت، لكن ظلت تعيش في عين كل فنان، وبين كل ريشة، ظلت الحياة الأخرى للكثيرين، والقاسم المشترك بين السعادة والحزن، خاصة وأن موته لم يكن عاديًا؛ بل كان أحد أهم مشاهد الموت تأثيرا في الأدب؛ فهي لم تمت أي ميتة؛ ماتت غارقا، ماتت وهي تنتظر السعادة أن تحملها على كفيها، لم تدرِ أنها ستكون غارقة لتطفو، ويسجل الفنانون حادثة موتها بطريقة تراجيدية على لوحاتهم.
أوفيليا سيدة الزهر، الوردة المفعمة بالروح والحياة، الجميلة بكل ملامحها، تموت ليصوّر العالم موتها، لتكون اللوحة المتباينة في تفاصيلها، هي الصورة الجنائزية التي تقام عليها صلوات الحزن، إنها الميتة المليئة بالسحر والجمال. امرأة تطفو على شاكلة زهرة متفتحة، زهرة تطلب من الشمس أن تعكس أشعتها عليها؛ لتبرز جماليات تقاسيمها، بين المياه الزرقاء، والأزهار المتناثرة مع القليل من الخضرة. إنه الحزن الخلاب.
أوفيليا لم تمت أبدًا. إنها تستيقظ بين الحين والآخر على لوحات الفنانين، وفي مسرحية هاملت، قدرها في الحياة أن تظل روحها مستيقظة بيقظة كل فنان يشعر بها ويستشعرها. قدرها أن تظل لوحة ثابتها، لا يمكن لها أن تموت أبدًا.
وكل من يشاهد اللوحة، يخيَّل إليه أنها مجرد لوحة رسمها الفنان البريطاني السير جون إيفريت ميليه، لكن الحقيقة أنها لم تكن مجرد لوحة لامرأة عادية، أو لفتاة تعيش في مخيلته، إنما كانت لأنثى طاغية في الجمال، طاغية في دقة تفاصيلها، وقد أحسن تصوير مشهد وفاتها. وكانت اللوحة بحد ذاته رواية جميلة، تقرأ في ألوانها مفاهيم الحياة، وغربة الموت، تقرأ بين خطوطها جماليات الفن وإبداع الفنان، تجد خلالها القواسم المشتركة بين الموت والحياة، خاصة وأن المثير في هذه اللوحة أن من ينظر إليها، إما أن يرى فيها السعادة، أو أن يعيش معها الحزن؛ مليئة بالتناقضات والأفكار والرؤى التي أراد إيفريت إيصالها. وعلى الرغم من كمية الحزن الطاغي، إلا أن المتعمق في تفاصيلها يرى أن نفحة السعادة التي اكتسبتها بسبب الألوان الحيوية التي صنعت منها حياة أخرى.
أوفيليا سيدة الحب والجمال ترحل بيديها المفتوحتين للسماء، ترحل كأغنية حزينة ومؤلمة موجعة، ترحل ليبقى منها شيء من البهاء، شيء من بقايا حبها للأرض والسماء؛ شيء من العمر الذي لن يعود ولن يعود ولن يعود إلا على جدران تحتضن تلك اللوحة الفائقة الجمال. فهل ندرك معاني الجمال في صورة أوفيليا؟!