معاوية الرواحي
يأخذُ الاختصام الفكري في عُمان مساراتٍ غير متوقعةٍ أحيانًا، وقد يتحول إلى خلافٍ شخصي عنيفٍ؛ تُبرزُ فيه النفس البشرية قدراتها على الكراهية والبغضاء، وقد ينتصرُ الغضبُ، فيحدث الشطط، والأذى، وما يترتب على ذلك من وقيعة ومكائد.
والغضب ليس شعورًا سيئًا بالضرورة، فهو أنبلُ بكثير من اللؤم، والتخفي، وخصومات الشماتة، والتشهير الناعم، ولغة "تبطين الإساءات" التي تحوّلَ إليها واقع الحال الإلكتروني في الساحة الرقمية العُمانية.
مرَّت سنواتٌ ليست بالقصيرة منذ أن عمَّ الصمتُ ساحةَ الكتابة والأفكار، وخلَّف هذا الوضعُ آثارَه المريرة على آلية الخطاب، وعلى وسائل الاختلاف. في زمنٍ سابقٍ من الخطاب المتكافئ بين المختلفين فكريًا، كان الاحتكام الرئيس مبنيًا على حق الجميع في أن يكون له رأي، وبالتالي لم يكن النقاش مطروحًا من الأساس في حق طرفٍ أن يستهدفَ حريةَ الطرف الآخر، بخطابات مثل: الإخراس وكتم الأصوات؛ بل وربما خروج الخصام من الأفكار إلى عوالمَ أخرى، شخصية للغاية؛ كعالم العَمل والحياة الاجتماعية.
وأدى غيابُ مؤسسات الفكر والثقافة والإعلام عن الحوار الفكري الاجتماعي إلى آثار سلبيةٍ شديدة، وبسبب هذا الفراغ بدأت مجموعة من الثقافات في الدخول في الساحة الإلكترونية، ومنها ما هو مضرٌ للفرد وللمجتمع، وقليلٌ منها ما هو مثمر ويتحول إلى نتائج واقعية.
ومن وسائل الاختلاف في العصر الرقمي الحديث في عُمان هو التشهير الناعم؛ حيث يتولى البعض صناعة الأشباح، والمخاوف، ويتتبع الأخبار من هُنا وهُناك لتجدَه لاحقًا يَنشرُ مجموعة من التلميحات التي لا تخفي قصدَها بالضرورة.
نوع من الخصومة اللئيمة التي قد لا تحدث في المنابر المنضبطة منطقيًا وشخصيًا، ولم تعد هذه الطريقة مستخدمةً من قبل الأفراد؛ بل حتى الشركات، أصبحت تتعامل مع بعضها بهذه الطريقة، والسبب أن واقع بعض مواقع الإنترنت مهيأٌ ومبرمجٌ من الأساس للعمل على هذه الطريقة؛ فهي تجلب الزيارات، وتعزز التحيزات السابقة لدى الفرد، وتجعله يرى أمام عينيه عالمًا يتفق معه، ولذلكَ فإن الاعتمادَ على الإنترنت كوسيلة حوار لم يكن رهانًا جيدًا سوى في تلك المرحلة التي أخذت مكانها كمنابر نشرٍ تُعطي للفرد أفقًا أكبر، وتسمحُ له بالتجريب، والخطأ، ومعرفةِ علاقةِ منتجه الفكري مع العالم الكبير.
وكما أصبح التشهير الناعم وسيلة حوار، بات الرد عليه يستخدم السلاح نفسه، ومن هُنا ظهر لدينا حوار خفيٌّ، يدركه الذي يعيش في المجتمع ويتتبع خيوط الحكايات، لكن يغيبُ عن المشاهد من بعيد. لقد خرجَ الحوار من مساره الفكري ليصبح شخصيًا مليئًا بالمكائد المتبادلة، وتتبع الأخبار، وتقصي الشائعات والنمائم والكتابة عنها بما يشي بكفاية معناها، ولا يقول ما يكفي ليدفع الإنسان ثمنها. خطابٌ لا مواجهة فيه ويخلو من الصدق ويمتلئ بالتنصلِ من العاقبة والنتائج.
إن استمرار وضع النقاشات الفكرية كما هو عليه في عُمان سيؤدي مع الوقت إلى استفحال ظاهرة "الاستقطاب الرقمي"، وهذه ليست ظاهرة سيئة بالضرورة، ولكنها ليست نافعة كثيرًا، فنصيبها من الحياة لا يتجاوزُ الخط الزمني الذي تتيحه مواقع الإنترنت، والتي ستتكاتف خوارزمياتها في الغد القريب لتصنعَ وسمًا جديدًا، ولتنتقي عقول الناس من موضوع لآخر، لم يعد الأفق البعيد مُهمًّا أمام هذا الأفق القصير، ومن عساه أن يصنع النتائجَ وأن يُحاور؟!
هذا لن يكون في المؤسسات التعويضية المُرتجلة التي تحدث في الإنترنت، هنا يبدأ دور المؤسسات لتعقد ندواتها، ولتتعايش مع حقيقةٍ بديهية هي أنَّ الواقع العُماني أصبح جاهزًا لرفع كفاءة هذا الحوار، ولتحويله إلى نتائج وخُلاصات مبنية على آراء المُجرِّبين، والخبراء، والأكاديميين، والمثقفين، وغيرهم من الذين لهم اتصال مباشر بما يحدثُ في سجال الأفكار والكلمات في الساحة العُمانية.
من المؤسف أن يذهب هذا الجهد الذهني الكبير ليخرجَ بلا نتيجةٍ ولا خلاصات، ومن الهدرِ لكل هذه الطاقات العقلية لكل هؤلاء الأفراد ألا ينتبه المهتم لأحوال الثقافة والفكر في عُمان إلى حقيقة أنَّ وقت الحوار قد حان، فإمَّا مأسسته، وتحويله إلى ندوات، ومؤتمرات، وملتقيات إعلامية وشبابية، أو انتظارِ ثقافة التشهير الناعم، والهمز واللمز؛ لتنشر ما يكفي من القش في المجتمع قبل حدوث الخصام الكبير، والذي سيتساءل وقته البعض: لماذا حدث؟!