هل لدينا مشاريع تصون الإنسان؟!

 

 

د. صالح الفهدي

 

التَّحديات الممنهجة التي تتقصَّدُ تمييع أخلاقيات مجتمعاتنا، وضربِ المكوِّنات الثقافية في معتقداتنا، ومفاهيمنا، وتحريف مفاهيمنا الفكرية أصبحت واضحة للعيان، لا يجادلُ فيها مجادلٌ عاقل، وقد أصبحت تفرضُ سؤالًا مُلحًّا: هل لدينا مشروع ثقافي مستنير يرمي إلى الحفاظ على هويتنا، وحماية أخلاقيات النشء، وتحصين عقليات شبابنا؟!

لقد انكشفت أغطية الكثيرين من دُعاةِ الإلحاد ليس من خارج مجتمعاتنا وحسب؛ بل ومناصريهم في الداخل، وقد عُقدت ندوة الإلحاد لتقويم مفاهيم منحرفة في هذا المنحى العقدي الأهم، بيد أنَّ الندوة في حدِّ ذاتها لا تكفي لأنها عقدت لتُلفت النظر إلى الخطر الداهم لمشكلة الإلحاد، وتفنِّد ما عَلق به من أوهام وتخرُّصات، وتبيِّن ما توارى خلفهُ من نوايا خبيثةٍ تقصدُ تفكيك البنية المجتمعية القائمة على وحدةِ الدِّين القويم، وانحدار البشر نحو هواية الضلال.

الانحرافات الأخلاقية المتمثِّلة في الشذوذ الجنسي باتت هي الأُخرى تحظى بدعم قوى عُظمى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا؛ إذ عبَّر مؤخرًا وزير خارجية أمريكا عن افتخاره بالمثلية متجاهلًا أن بلدهُ قائمة في الأساس على قيمٍ مسيحية ترفضُ هذه الانحرافات الشَّاذة؛ بل إن دعم الشذوذ أصبح بندًا من بنود حقوق الإنسان لدى الأُمم المتحدة، وأساسًا من أُسس دعم الأندية الرياضية الكُبرى والتي تحضى بتشجيع وولاء المليارات من الشباب، في حين أمست الاستراتيجية الدنيئة لنشر الشذوذ الجنسية معروفة بخطواتها الرئيسة.

الحركات النسوية هي الأُخرى قد تسلَّلت إلى مجتمعاتنا من باب حقوق المرأة التي يجب أن تنالها، ولم تكن هذه الحقوق لتعنيها في الجوهر؛ لأن مقصدها هو الإنحراف الأخلاقي، ولكن لا تدرك بعض الفتيات مقاصد هذه الحركة لأسباب متعددة، منها ما يتعلَّق بالتربية، والوعي، والقرب الأُسري، والدِّين، فأصبح لها من التابعات الجاهلات بخفاياها ظنَّا أنها طريقة من طُرق العصرنة والتحضُّر، وما هي إلا طريق العبودية والتخلُّف.

لغتنا هي الأخرى مهددة، فنحنُ نشهدُ تضعضع أركان اللغة الدارجة واستخدام المصطلحات الأجنبية بكثرة خاصة في تواصل الأبناء مع أقرانهم تحدُّثًا وكتابة، في حين تنتشرُ على الشوارع اللافتات التجارية المكتوبة باللغة الإنجليزية والتي تعبِّر عن الشعور بتفوق الإنجليزية على العربية لدى أصحاب المشاريع التجارية!

أعودُ إلى موضوع "ندوة الإلحاد" لأقول إن الندوة على أهميتها، وقيمتها العظيمة لا تعدُّ مشروعًا وإن كانت أساسًا لمشروع توجيهي أعمق منهجًا، وأشفُّ طريقةً، وأطولُ زمنًا، وهُنا أستذكرُ سؤال إحدى الطالبات في جامعةٍ وطنيةٍ مرموقةٍ لدينا لضيفٍ كنتُ وإيَّاهُ في ضيافة الجامعة، فسألته سؤالًا وصفتهُ بأنَّه جريء، والسؤال هو: هل تعترفون بفشل خطابكم الديني الموجَّه للشباب؟ ردَّ عليها الضيف: وأنا سأكون أجرأُ منكِ وأقولُ نعم نعترف!

خلاصةُ القولِ إنَّ الأخطار المؤثرة على الهوية والأخلاق والتربية لا تحتاجُ إلى أدلَّةٍ عليها، وإنما يتبقى السؤال هُنا: هل نحن في وعي كافٍ لتبعات هذه الأخطار على مجتمعاتنا؟ هل لدينا مشاريع فاعلة على أرض الواقع من أجل درءِ هذه المخاطر؟ أما الإجابة على السؤال الأول فأقول نعم أننا نملكُ الوعي الكافي لإدارك التبعات أما المشاريع – وهذه إجابة السؤال الثاني- فهي غير موجودة فعليًا لا على صعيد التعليم، ولا التربية، ولا التثقيف، وهذا أمرٌ مؤسف سندفع أثمانه في المستقبل إن ظللنا في إعراضنا نحوه، وتجاهلنا تبعاته الوخيمة..!

أحد المشاريع التثقيفية الكبيرة التي شاركتُ في صياغتها مؤخرًا رُهنَ بدعم القطاع الخاص فإن تكرَّم ودعم قام المشروع، وإن تعذَّر وتأسف دُفنَ المشروع في حين أن مشاريع كهذه التي تُعنى بتحصين الشباب لا يجب أن تقرن بدعم (غير أكيد)؛ بل إن الحكومة يجب أن توليها الأولوية القصوى لما لها من أهميةٍ على مستقبل الوطن.

أمَّا سؤال المقال: هل لدينا مشاريع؟ فإنني أقصدُ بتلك المشاريع التي تهدفُ إلى تقوية الوازع الديني، وتحصين الفكرِ، وتعزيز الأخلاق؛ حيث أعتقدُ جازمًا أنَّ هناكَ إشكالاتٍ مؤثرةٍ في التأسيس يجب أن يعترف بها المسؤولون كلٌّ في مجالِ مسؤوليته التعليمية، والتربوية، والإعلامية، والاجتماعية، والدينية، والثقافية فيما يتعلَّق بالطرق التي يشوبها الخللُ في بناء شخصية الإنسان في مجتمعاتنا؛ فهناك نقصٌ واضح يشوب طرق فهم الدين الإِسلامي بسبب عدم تبسيط مفاهيم الدين وتناوله بيسرٌ في أبجدياته البسيطة التي لا يعتريها تعقيد، وقد أدَّى هذا النقص إلى عدم رسوخ الدين في قلوب بعض الناشئة والشباب.

أمَّا التعليم فهو يعاني من إشكاليات تطرقتُ إليها في كتابي "آن الأوان لنصحح مفاهيمنا في التعليم"، في حين تعاني الأخلاقيات من نقص التوجيه القيمي، وأذكرُ أن حِملةً كانت تجتاح العالم الإِسلامي ممولة من قبل إحدى الحركات، وقدر كان أثرها كبيرًا على الشباب، وكنتُ شخصيًا أُحذِّرُ منها رغم أن ظاهرها أخلاقي إلا أن جوهرها يرمي إلى استقطاب الشباب نحو ولاءات معيَّنة، وبعد إيقافها لم تفطن الدولة إلى أهمية دعم ما يملأ فراغها ويستلم زمام المبادرة بعدها، وهذا يعود في اعتقادي إلى عدم توفُّر الإرادة، والبعد العميق، والقرار الحازم، والوعي بالأثر.

إننا نبرىءُ ذممنا بمثلِ هذا القول، لأن المكابرة والإعراض لا تُغنيان شيئًا في وجهِ هذه الأخطارِ الداهمة، ومن يكنُ الاستخفاف شيمته فإنني أقول له تذكر قصَّة تلك الشجرة المعمرة لأربعمائة عامٍ قاومت خلالها الأعاصير والرياح الهوجاء والأمطار، ولكن حشرات صغيرة من هوام الأرض ودوابِّها استطاعت أن تنخرها فتسقطها!! فضع الأخطار محل الحشرات الصغيرة، وتخيَّل أثرها على الأوطان!