الملياردير والنملة..!

 

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

تسبَّبت "مجموعة النملة" في اختفاء جاك ما أغنى رجل في الصين في العام 2021م.. والنملة هنا ليست الحشرة المعرفة، وإنما (The Ant Group) أكبر شركة تكنولوجية مالية في الصين، والتي كادت تكون الأكبر في العالم لو ظلت حالها على ما كانت عليه.

فماذا حدث؟

(1)

القصة أنَّ جاك ما يعدُّ أغنى رجل في الصين، فهو مؤسس شركة "علي بابا"، والتي تعتبر نسخة صينية أخرى من "أمازون" ومنافسا قويا لها. وصلت إمبراطورية شركته إلى درجة القوة العظمى في القطاع الخاص، والتي أهَّلتها لتقف على قدم المساواة مع FANG (Facebook, Amazon, Netflix & Google)، وهي المحرك الأساسي لبورصة "ناسداك" الأمريكية؛ حيث بلغتْ قيمة "علي بابا" وحدها أكثر من أي شركة أمريكية باستثناء "آبل" و"جوجل" و"أمازون".

إلى هنا.. تبدُو الأمور شبه عادية، فقد حقَّق الملياردير الصيني إنجازات خرافية في وقت قياسي؛ فالشركة التي بدأها كموقع إلكتروني يُديره من داخل بيته، تضخَّمت وبلغ عدد مستخدميها 800 مليون متسوِّق حول العالم، لكنه لم يعلم أن "نملة" ستكون السبب وراء اختفائه!!

 (2)

"كنز النملة"

وفي يونيو من العام 1999م، اجتمع جاك ما مع بعض من أقاربه وأصدقائه، شارحًا لهم أهمية التجارة الإلكترونية، واقتنع الجميع بفكرته، وقرَّروا مُشاركته؛ فتمَّ تجميع ما يقارب الـ60 ألف دولار، وبهذا المبلغ تمَّ إنشاء موقع "علي بابا"؛ وكانت معاملات الشركة تركز على (B2B business-to-business)؛ بمعني أنَّ البائع والمشتري عبارة عن شركات. وبعد إطلاق الموقع بأربع سنوات، وتحديدا في العام 2003م، ومع ظهور عملاق التجارة الإلكترونية في أمريكا (ebay)، والتي كانت تعتمد نموذج (B2C" " BUSINESS-TO-CONSUMER) الذي يستهدف المستهلك، قرر جاك ما تأسيس موقع يستهدف المستهلكين أيضا، ليُطلق في مايو من العام 2003م "تاو باو" (TAOBAO)، لكن هنا بدأت تظهر العقبات!!

فالصينيون أنفسهم ليست لديهم ثقة في التعاملات الإلكترونية؛ مما تسبَّب في جلبة بين التجار والمتعاملين على موقع "تاو باو"، إلى أنَّ ظهر الحل في العام 2004م، بإنشاء خدمة المدفوعات الإلكترونية (Alipay) لتكون وسيطًا ضامنًا بين المستهلك والبائع.

ولقد أسهم تطوير (Alipay) في توسُّع TAOBAO ومن ورائها الشركة الأم "علي بابا"، وبعد 15 عامًا من تأسيسها، تمَّ طرح جزء من "علي بابا" للاكتتاب العام في البورصة الأمريكية، ونجحت في جمع 25 مليار دولار من المستثمرين حينها، وكانت بذلك أكبر اكتتاب في التاريخ، ولكن الملاحظ أنَّ "علي بابا" طرحتْ الاكتتاب العام دون بوابة المدفوعات (Alipay).

(3)

وعودًا على ذي بدء، فإنه وقبل 3 سنوات من طرح الاكتتاب العام لـ"علي بابا"، ارتأى جاك ما أن Alipay يُمكن لها أن تكون حجر الأساس لإمبراطورية جديدة في القطاع المالي؛ لذا قام بفصلها عن الشركة الأم "علي بابا"، وجعلها تحت إدارته هو شخصيًّا، وأسس شركة جديدة في 2014م أسماها (ANT FINANCIAL) النملة المالية، والتي تم تغيير اسمها لاحقًا إلى (Ant Group). وانطلقت المجموعة الجديدة بشكل صاروخي، وأصبحت أكبر بوابة لخدمات الدفع الإلكتروني في العالم، متفوقة على (PayPal) الأمريكية.

وأثارت المجموعة الجديدة القلق لدى الحكومة الصينية والقطاع المصرفي والمالي تحديدا، الأمر الذي دفع الحكومة للتدخل، و"قصقصة ريش" جاك ما قبل التوسُّع.. ولكن لماذا هذا الرعب من شركة خدمات دفع إلكترونية؟

 (4)

تقدِّم "مجموعة النملة" خدمات الدفع الإلكترونية، ولكن على نطاق أوسع وأشمل؛ فهي مزيج لعدة شركات وخدمات في شركة واحدة؛ حيث تقدم خدمات مشابهة لكل من (Apple pay) للدفع دون الاتصال بالإنترنت، و(PayPal) للدفع عبر الإنترنت، و(Venmo) لتحويل الأموال، و(MasterCard) لبطاقات الائتمان، و(JPMorgan Chase) لتموين المستهلك، و(iShares) للاستثمار.

إلا أنَّ خطورة "النملة" لا تكمُن في نطاق الخدمات الشاملة التي تُقدِّمها، وإنما في إحدى أذرعها وهي خدمة المدفوعات؛ حيث يُوجد ما يقارب المليار مستخدم في Alipay وبنسبه رسوم لا تتجاوز الـ0.1% وهي نسبة أقل من الرسوم التي تفرضها البنوك الصينية على تعاملات بطاقة الائتمان. وأيضًا ليس هذا هو الكنز الوحيد المُختَبِئ تحت أقدام "النملة"؛ وإنما كذلك كم المعلومات عن المستخدمين. فالنملة تعرف عن المستخدمين ما لا تعرفه الحكومة أو المقربين من مستخدم خدمات (Alipay): طعامه المفضل، شرابه، ملبسه، أين يقضي إجازته؟ كم يصرف من راتبه؟ ومتي ينتهي الراتب؟ هل هو مُتزوج أو أعزب؟ كل هذه المعلومات يتم تحليلها لتحدِّد أحقية المستخدم للقروض، وما إذا كان يستطيع أن يدفع أقساط القرض أو لا؛ وذلك عن طريق خدمة الإقراض (Huabei) أو الإقراض الاستهلاكي للأفراد، وكذلك خدمة (Jiebei) والتي من مهامها منح القروض لأصحاب المشاريع الصغيرة.

وتعتبر خدمة الإقراض الاستهلاكي بمثابة بطاقة ائتمان افتراضية، تُتيح للمستخدمين تأجيل مدفعاتهم لمدة شهر أو تقسيمها على أقساط، وتقدم "النملة" هذه الخدمة برسوم أقل عن البنوك وبدون تعقيد؛ الأمر الذي أضرَّ بالبنوك الصينية أيضاً وفي وقت قياسي لا يتجاوز 3 دقائق.

 (5)

حقَّقت خدمة الإقراض -بشقيها الاستهلاكي وقروض المؤسسات الصغيرة- أرباحًا وصلت إلى 3,5 مليار يوان في العام 2018م؛ الأمر الذي أغضب الجهات التنظيمية والقطاع المصرفي الصيني تحديداً، والتي بدورها فرضت قواعد جديدة لاستمرار "مجموعة النملة"، وهنا قرر جاك ما تغيير طريقة عمل خدمة الاقتراض  Jiebei  بتحويل النملة إلى وسيط بين المستخدم والبنوك؛ حيث يقدم المستخدم الطلب عبر التطبيق، ثم يقوم التطبيق بتحليل بيانات المستخدم وتحديد جدارته الائتمانية، ثم إرسال النتائج والطلب إلى البنوك التي تتعاون مع التطبيق، وتحصل الشركة على نسبة، وبهذه الطريقة تكون الشركة قد باعت البيانات إلى البنوك فعليًّا. الأمر الذي لم يكن كافيا لإرضاء الحكومة والبنوك الصينية أيضاً. فطلب البنك المركزي الوصول إلى بيانات المستهلك الخاصة بالشركة، والتي تضمُّ بيانات أكثر من مليار شخص يتعامل مع الشركة، وقالت الحكومة حينها إن الاحتفاظ بهذه البيانات لصالح The Ant Group وحدها يعتبر نوعًا من الاحتكار.

واتَّخذت الصين بعض الإجراءات التعسفية مع جاك ما تحت عنوان "التصحيح"، وتم وقف اكتتاب "The Ant Group" الذي قُدِّرت قيمة الاكتتاب بحلول أكتوبر من العام 2020م بحوالي 3 تريليونات دولار، وفي اللحظة الأخيرة أوقفتْ بكين عملية الاكتتاب، وبها كتبت بداية النهاية لـ"جاك ما" شخصيًّا، وانهارت إمبراطورية "النملة"، بعدما تم فرض غرامة احتكار على شركة "على بابا" في أبريل 2021م، وصلت إلى 2.8 مليار دولار بتهمة الاحتكار.

فما الذي قضَّ مضجع بكين؟ أهي الخدمات المالية الجديدة وهيمنتها على السوق المالي؟ أم كنز النملة المعلوماتي عن المستخدمين؟.. سؤال يظل مفتوحًا على كل الاحتمالات.