عنوانه لم يرق للقراءة

 

 

د. خديجة الشحية

 

اعتدتُ في كل تجمع أن أسترق النظر إلى الجموع الكثيرة الممتدة على مد البصر، في المحافل والمؤتمرات وحتى الشارع، والاستراحات في المستشفيات وغيرها من التجمعات التي تصادفني وتلفت انتباهي.

لست أقصد النظر إليهم كمراقبة أو مقارنة أو حتى فضول لشخوصهم، بقدر ماهي لسلوكياتهم؛ السلوك الذي لايمكن أن يتصنعه أي أحد طويلا، ولا يمكن أن يتظاهر به كثيرا، ولا أظنه قادر على المضي فيه مرغما لأمد بعيد، يتصنعون ولكن إلى متى؟ لابد أن يسقط القناع في لحظة يغفل عن شخصيته التي تتوارى خلف شخصيته الحقيقية. أحدهم كان يتظاهر بأنه غير مهتم بمن حوله، وتقمص شخصية عدم الاهتمام والاكتراث، وذلك بسبب البالونة التي وضع نفسه بداخلها، حتى إنه لايكاد يلقي التحية على الحضور من حوله، هذا ليس بسبب فقدانه للذكاء العاطفي، لا، ولكن لأنه يرى نفسه أعلى شأنا منهم، ويتظاهر بهدوء غريب، وتهذيب مصطنع، وهو على عكس ذلك تماما  حتى مرَّ أحدهم وبدون قصد، وكان يسير أمامه بكوب العصير، وتصادم معه لينسكب العصير عليه، ولم تكن إلا ثوانٍ،، ليفتح فمه وكأن شيئا عظيما قد حدث له، واختفت تلك البراءة التي قد رسمها مسبقا على محياه الأنيق، وجسده الرشيق. تكهرب كل من حوله بسبب تطاوله على الشخص الذي سكب عليه العصير، غير مباليا بمشاعره أمام الآخرين، كل هذا وأنا أراقب نظرات الناس من حوله له، وهو بذلك التصرف الغير راق من شخصية تدرب الآخرين على التحكم بأعصابهم وقت الغضب.

كيف ذلك،  وهم مستغربون، وأنا أشاهد عن كثب،  وأنتظر ما سيحدث فعلا بعد تلك الواقعة،  اقترب أحدهم ليهدَأ من روعه، وبأن المسألة غير داعية لكل ذلك، إلا أنه استشاط غضبا، متهما الشخص الآخر بالعمى كونه لم يره،،و بسبب عدم احترامه لمن حوله، ابتعدوا عنه، وطلبوا من  الشخص الذي كان يحمل العصير الابتعاد، احتراما لما تبقى من ماء وجهه أمام الحضور، أتعجب من هكذا تصرف، من يُفرز مخلفات ضغوطاته النفسية ويكشف قناعه المزيف بوجه من لاذنب له.

عند حضوري هناك، رأيت ما رأيت من أمزجة، من أطباع غريبة،من أقنعة مركبة، آمنت بأننا نعيش فعليا في مجتمع الأقنعة، هذا المجتمع الذي نتعب كثيرا عندما نتعايش معه، كل من فيه مرائ، ويناقض نفسه ويتقمص أدوارا ليست مركبة فيه، يتظاهر بسلامة سريرته، بينما هي مريضة قد أصابها التعفن من شدة الوباء الخبيث المستشري بداخلها من أحقاد وزيف مشاعر، مراقبة المتصنعين والمتسلقين والمتظاهرين بالبراءة، تصيبني بالغثيان، يظهرون عكس ما يبطنون.

شخصية أخرى كنت أتابع حديثها مع طرف ثانٍ حول اللهث إلى المناصب، كنت على مقربة منهم في زحام المشاركين في تجمع ما، أستغرب بأنه ممن يلهثون على المناصب ويطالبون بها لما يتمتعون به من خبرات ومؤهلات علمية.  ألا يعلمون بأن تلك المناصب ليست أكثر من صداع نصفي، وعدم الراحة في منطقة الأمان، والتي من المفترض أن يلهثون وراءها هي تلك المناصب المتعبة؟ صمتوا قليلا فأجابه صاحبه: "سمعت أن زميلك سوف يسند إليه منصبا! رد علي دون تفكير لتظهر شخصيته المبطنة خلف القناع: "على جثتي لو حصل على ذلك المنصب، أنا أحق به منه، سوف أقاتل حتى يكون لي وأصبح أنا من يجلس على ذلك الكرسي".

يتعب من يلعب دورا ليس له، وينكشف من يتوارى خلف حقيقة ليست لائقة به، لم يتحمل أن يأخذ أحدهم منصبا أعلى منه، بينما هو يحرم منه الآخرين ممن يستحقون، مثل هؤلاء يعتلون بدوسهم على غيرهم، وكأنهم قد أمّنوا على عافيتهم وأبناءهم من لعنات الظلم وسلب حقوق الآخرين، مثل هؤلاء تخونهم تعابيرهم، يخونهم حرصهم بأن لا يتفوهوا إلا بما يليق بهم في تلك التجمعات المكتظة بالناس، والتى لاتحترم خصوصيتهم أبدا وسط عالم يضج بحديث هذا وذاك. طاولة الطعام التي كنت أجلس عليها أنا وبعض الأخوات، قد أنصتت لتلك المحادثة دون قصد -والتي لم ترق لهن، مثلما لم ترق لي أيضا- بسبب الصوت العالي الذي كانوا يتحدثون به.

تعلق إحداهن: "أن ما وصلوا إليه قد لا يكون أرزاقهم فعلا؛ بل نقمات نالوها ليعاقبهم الله بها، وذلك بالإشتغال عن أسرهم، أبنائهم، صحتهم، ولا يبارك الله لهم بما بين أيديهم، من يصل على أكتاف الغير ويتظاهر بالطيبة والعدالة لمن حوله، لن يطول مسلسله، وحلقاته غير مكتملة،غير مؤثرة على الآخرين، ويسقط هو، ويفشل جميع المال والجهد الذي استنزفه للوصول للقمة، رشاوٍ تحت الطاولة. أصبح -بزمننا ذا- من الصعب الوصول لمنصب مهم دون تقديم الولاءات والطاعة والكثير من التنازلات وعقد الاتفاقيات والمصالح المشتركة، وإلا لما حدث العكس. تصعد فئة نائمة،وتهمش فئة كادحة.

والشيء بالشيء يذكر، على الرغم من كمية الأسف التى أستشعرها، تجاه نفسي بعدم الإنصاف، إلا أنني متيقنة من رحمة الله بي، كوني لم أصعد ولا أنوي الصعود على أكتاف أحدهم، كمية الإجتهاد والإنجاز التي أعمل بها وأنتج من خلالها، تشهد لي بذلك، ولا أتظاهر -مثلهم- بأنني لا أحتاج تقلد منصب. تعبت على نفسي علميا  وعمليا، وأستحق أن أكافأ مثل غيري، ممن يجتهدون بأنفسهم ليحظوا بالاستحقاق. لا أتقمص شخصية غير التي أبتغيها لشخصي، وضوحي  واجتهادي قد لا يعجب أحدهم، وصوتي المسموع بأني أستحق، لم يرق لهم، مما أتاح الفرصة لهم لوضعي على الرف كما يتم وضع كتاب، عنوانه لم يرق للقراءة.