قنابل الفقراء وجشع الأمراء

 

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

 

(1)

ضَرْبٌ بالمندل

"لستُ مُتشائماً، لكنَّ البشرية ستشهَد الأسوأ وجائحة جديدة مُحتَملة ستظهر لدى البشرية" - بيل جيتس

مع كمِّية التصريحات العجيبة التي تنمُّ عن استشراف للمستقبل، أو وجود حاسة سادسة تثقب الزمن، وتنظُر إلى مُستقبل كوكب الأرض ومصير البشرية بعدسة مُكبِّرة فاحصة، وتُصدِر تعليقات مُشبعة بالثقة والدراية والمعرفة؛ الأمر الذي يدفعنا نحنُ البشر إلى التساؤل: هل يُؤمن العلماني بضرب المندل، أم يفضِّل استخدام قراءة الفنجان أم يستخدم التاروت؟

ليس هذا أول تصريح لبيل جيتس يعبِّر فيه عن مدى تشاؤمه بظهور جائحة جديدة، ورغم ذلك يعتبر بيل جيتس أحد أهم الداعمين للأعمال الخيرية وبالأخص في قطاع التعليم والصحة؛ فقد قدمت مؤسسته الكثير من الدعم المادي لمحاربة الإيدز والأوبئة المتفشية في دول العالم الثالث.

(2)

حربٌ صامتة

حربٌ لا سلاح، ولا عتاد، ولا انفجارات، ولا شظايا ولا دخان، حربٌ لا تخلف وراءها آثار تدمير مادي في المباني والمنشآت، لكنها حربٌ قاتلة تخلِّف وراءها آلاف القتلى؛ الهدف من هذه الحرب الصامتة الإنسان والجماعات البشرية، وبهذا السلاح يمكن هزيمة وكسر إرادة دول أو التحكُّم بها أو تهديدها أو ابتزازها سياسيا واقتصاديا؛ سواء كان هذا التهديد جزئيا أو كليا، إنها نوع من الحروب الصامتة والحقيرة؛ فأنت لا ترى عدوك، ولا تستطيع أن ترفع أصبع الاتهام نحوه، حتى وإن كُنت موقنًا بأنه هو الفاعل، ولن تكون قادرا حتى على الدفاع عن نفسك.

(3)

حاصد الأرواح

الحرب البيولوجية أو الجرثومية أو الميكروبية.. هي الاستخدامُ المتعمَّد للجراثيم أو الميكروبات أو الفيروسات؛ بهدف نشر الأوبئة والأمراض، والتي تحصد أرواح كثير من البشر. يقوم السلاح البيولوجي على الإنتاج المُتعمد لكائنات حية متناهية الدقة، تُسبب الأمراض والأوبئة الفتاكة، وتؤدي إلى هلاك وفناء الأفراد أو المجتمعات؛ سواء كان على نطاق مدينة أو منطقة، أو حتى بلد بأكمله. ويختلف نوع السلاح البيولوجي وتأثيره، ويمكن استخدام هذه الكائنات على حالتها في الطبيعة، كما يُمكن تطبيق تكنولوجيا الهندسة الوراثية والبيولوجيا الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية بهدف زيادة قدرة الإصابة ونطاقها التأثيري والتدميري.

(4)

جهاز المناعة

حُصِّن جسم الإنسان بجهاز مناعي فذ، قوامه الخلايا الدفاعية التي تُهاجم الجراثيم والفيروسات الغازية وتدمرها، إلا أنَّ كثافة وقوة تركيز هذه الجراثيم والفيروسات والتي تغيَّرت هندستها الوراثية؛ يجعل الجهاز المناعي البشري عاجزاً إزاءها، إضافة إلى عامل انتشار العدوى؛ الأمر الذي يُفاقم التأثير ويصعِّده إلى مستويات خطيرة؛ وهذا ما يُميِّز السلاح البيولوجي فهو أرخص تكلفة في الإنتاج، كلُّ ما تحتاج إليه هو مختبر مجهَّز في مكان سري، وعلماء جهابذة ومتخصصون، واصنع المرض ثم حمِّله على ظهر طيور مهاجرة وأطلقه.

وفي خِضَم حرب التصريحات بين روسيا والغرب، سرَّبت حرب أوكرانيا عن وجود 200 مُختبر للأسلحة البيولوجية تنتشر حول العالم؛ من ضمنها 30 مختبراً في أوكرانيا، وتتمركز أغلب هذه المختبرات حول روسيا والصين وإيران؛ وكلها بتمويل من البنتاجون يقارب حوالي 200 مليون دولار؛ إذن فهنالك حربان تستعران في أوكرانيا: الظاهرة مسلحة، والمتتسرة بيولوجية.

 (5)

حليمة وعادتها القديمة

لنعُد إلى التاريخ للحظات، ونتعرَّف على قِدَم الحرب البيولوجية.. حيث يُعتقد أنَّ أول استخدام للسلاح البيولوجي كان على يد القائد اليوناني سولون عام 600 ق.م؛ حينما استخدم جذور نبات الهيليوروس في تلويث مياه النهر الذي يستخدمه أعداؤه للشرب، وهو ما سهَّل عليه إلحاق الهزيمة بهم بعد إصابتهم، وقد لجأت الجيوش إلى تسميم ينابيع المياه والآبار والعيون والطعام في وجه الجيوش المعادية، وإلقاء الجثث المتعفِّنة للقتلى والمصابين بالأوبئة، حتى تنتشر الأمراض، محاولين بذلك الإبادة الجماعية؛ فقد كان اليونانيون والرومان والفرس والروم والمغول جميعهم يستخدمون الحيلة ذاتها.

وفي العصور الوسطي، احتلَّ الإمبراطور فريديك بربوسا مدينة تورتونا الإيطالية، بعد تسميم خزانات مياه الشرب، وخلال الحروب الصليبية قامت الجيوش الصليبية بإلقاء جثث الجنود داخل معسكرات الجيوش المصرية والشامية في محاولة لنشر الطاعون والجدري والكوليرا، ولاحقاً استخدم المغول الأسلوب ذاته عند اجتياحهم العديد من البلدان. وفى أوروبا، فتك الطاعون خلال الفترة الممتدة بين عامي 1348 و1350 بما يزيد على رُبع سكان أوروبا، فأسموه "الموت الأسود".

أما عن أحقر مُمارسات استخدام السلاح البيولوجي، فكانت في القرن الخامس عشر، بعد اكتشاف القارتين الأمريكيتين؛ حيث أتيح للمهاجرين الأوروبيين التخلص من السكان الأصليين عن طريق ملابس وأغطية مجلوبة من مستشفى العزل الصحي لمصابين بالجدري كهدايا إلى رؤساء قبائل السكان الأصليين؛ فكانت النتيجة انتشار الجدري، والذي فتك بعشرات الآلاف من الأبرياء. ومع تكالُب وتصاعُد الصراعات الدولية، زاد الاهتمام بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية باعتبارها أسلحة غير تقليدية وغير مُكلفة؛ لذا قامت العديد من الدول بتخصيص الموارد المالية والطاقات العلمية لدراسة الجراثيم وماهيتها وتوظيفها كسلاح، فأسست بريطانيا في العام 1940 لأول مراكزها البحثية للأسلحة البيولوجية في أحد مقرات وزارة التموين في منطقة بورتن؛ حيث تمكنت في العام 1941 من إنتاج أول قنابلها البيولوجية المعبَّأة بجرثومة الجمرة الخبيثة «أحد أنواع الأنثراكس الثلاثة»، مُمتلئة بالجمرة الخبيثة وألقتها تجريبيا فى جزيرة جرينارد الأسكتلندية النائية، وكان من نتيجة ذلك نفُوق كامل قطعان الماشية والحيوانات على الجزيرة بفعل القنبلة؛ الأمر الذى دفعها لإغلاق هذه الجزيرة نهائيا أمام البشر، ويَعتَقِد العلماء أنَّ الجراثيم المتولِّدة عن هذه التجربة لا تزال باقية إلى اليوم، وستستمر فى خطورتها.

وفي العام 1941، طلبتْ وزارة الدفاع الأمريكية من عدد من الجامعات والمعاهد تشكيلَ لجنة لدراسة موضوع الأسلحة الجرثومية؛ فقرَّرت اللجنة أنَّ الأسلحة الجرثومية ممكنة الإنتاج وفعالة النتائج، وعليه فقد شهد العام 1942 تأسيس أول مكتب لبحوث الحرب البيولوجية في وزارة الدفاع الأمريكية. وخلال حرب فيتنام، استخدم الجيشُ الأمريكي الأسلحة الجرثومية ضد قوات "الفييت كونج" والقرى والبلدات الفيتنامية، كما تم استخدام ذات الأسلحة في محاولة من الأمريكيين لتدمير محصول القصب في كوبا في الستينيات والسبعينيات، والذي كان مصدر الدخل الرئيسي للبلاد.

(6)

قنبلة الفقراء وجشع الأمراء

وبالعودة لتصريحات بيل جيتس -أحد أهم الداعمين للقطاع الصحي- يبقى السؤال: ألا يعيدنا المشهد إلى بداية القصة؟ تضافر الأطماع العسكرية والاستعمارية، وجشع الشركات متعددة الجنسية العابرة للقارات؟ فالشركات المنتجة للأدوية تستنزف الأسواق الطبية بهيمنتها على قطاع صناعة الدواء، ومن صالحها أن تلعب الحظوظ وفق مشيئتها فتطول الجائحة أو تتبعها جوائح أخرى، عن طريق طيور مهاجرة مُرقَّمة!! فالأمر يخدم مصالح الجميع.. حليمة تعود لعادتها القديمة وتنشر المرض وترسل راعيها اليميني -شركات الأدوية- تطبِّب وتذرُّ الرماد على الأعين وتبعد عنها الشبهات، لتستمر الحلقة.. قنابل تُلقَى على الفقراء كتجارب، وأدوية تُعطَى كحل إنسانيٍّ ناجع!!!