د. محمد بن عوض المشيخي **
تشكل الجمعيات التعاونية الاستهلاكية حجر الأساس للتنمية المستدامة في المجتمعات المعاصرة في العالم من أقصاه إلى أقصاه، وذلك منذ تأسيس أول جمعية من هذا النوع في بريطانيا في 1843م، فاليوم هناك أكثر من مليار شخص في هذا الكوكب أعضاء في هذه الجمعيات التي تهدف بالدرجة الأولى إلى محاربة الغلاء والاحتكار وتوفير السلع الاستهلاكية من مصادرها بأفضل الأسعار، وتسويقها بأسعار تنافسية تتناسب مع المستهلكين من مختلف شرائح المجتمع.
وتكمن أهمية هذه المؤسسات التي تنتشر في مختلف مناطق ومدن دول العالم أنها تدار بخبرات وطنية ومحلية من المستفيدين منها وذلك من خلال أسس وقوانين تنظم هذه الجمعيات وتحفظ حقوق المساهمين فيها وزبائنها من المتسوقين على حد سواء، كما توفر هذه الجمعيات أرضية صلبة للتعاون والتعاضد والمشاركة في صنع القرار خاصة في ما يتعلق بنوعية المواد الغذائية التي تعرض وجودتها وسقف الأسعار التي تناسب المستهلكين؛ لكونها تدار من قبل أفراد المجتمع الذين هم في الأساس المؤسسين والمالكين للجمعية التعاونية.
وتطورت هذه التعاونيات مع مرور الأيام وأصبحت تشكل العمود الفقري لاقتصاديات بعض الدول المهتمة بانتشار وتطوير هذه الجمعيات؛ إذ يبلغ نسبة مساهمة تلك الجمعيات في الناتج المحلي الإجمالي في نيوزلندا 22% وفي سويسرا 8% وكينيا 5%، بينما بلغ رأسمال هذه الجمعيات حول العالم أكثر من 2500 مليار دولار أمريكي العام الماضي. وقد رفعت الأمم المتحدة في احتفاليتها باليوم السنويّ للتعاونيات لعام 2021 شعارًا بعنوان "أن لا أحد مضطر إلى مواجهة الأزمات بمفرده".
محليًا.. عانت بلدنا من الاحتكار التجاري الذي أجاز لعدد قليل من التجار التحكم والسيطرة على قوت المواطن، دون رقيب أو حسيب، وكان ذلك بشكل رسمي، على الرغم من الشعار الذي يتم تداوله وتسويقه في الإعلام؛ بأن التجارة حرة وأن البلد يطبق ما يعرف بمبدأ السوق الحرة في التجارة.
وفي مطلع العقد الماضي أصدر السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- مرسومًا سلطانيًا بتأسيس هيئة حكومية لحماية المستهلك، استجابة لشكاوي المواطنين، ولمنع جشع التجار، الذين كانوا يتحكمون بالسلع الأساسية والكماليات باسم ما يعرف بالوكيل الحصري، الذي يمنع الآخرين من استيراد نفس السلعة، أو البضاعة المسجلة باسم التاجر الفلاني، وله الحق أن يبيعها وفق هواه.
وتكمن المشكلة الحقيقية هنا في وجود بعض المتنفِّذين في الدولة من الذين يمارسون التجارة إضافة إلى العمل الحكومي؛ إذ تتضارب مصالح هؤلاء المسؤولين باختصاصات ومهام هيئة حماية المستهلك، التي أرادت لها القيادة الرشيدة في هذا البلد أن تعمل على فتح أبواب السلطنة للإستيراد من الخارج في إطار المنافسة الشريفة في أسعار السلع والمواد الغذائية وغيرها من الأنشطة التجارية الأخرى. وحول النزاهة ومنع تضارب المصالح واستغلال الوظيفة الحكومية، أتذكرُ أجمل ما كتب حول هذا الموضوع المهم؛ ففي عقد السبعينيات من القرن الفائت في بلد عربي شقيق عُيّن ابن شقيق الملك أميرًا لإحدى المناطق، وبعد عدة أشهر من تولي الأمير مهامه انشغل بالتجارة؛ إذ أصبح وكيلًا لواحدة من أشهر وكالات السيارات في العالم؛ فإذا بعمه الملك يكتب له الرسالة التالية "اختر بين الإمارة والتجارة.. لا يمكن لكم الجمع بين الوظيفتين، فإن ذلك مفسدة". وأضاف "اقترح لكم ترك فرصة لأبناء المنطقة؛ ليتولى أحدهم وكالة السيارات بدلًا منك".
وفي أعقاب نجاح هذه الهيئة التي ضبطت الأسعار وعملت على محاربة الغش التجاري في زمن قياسي خلال إدارة رئيسها السابق، أصدر السلطان الراحل أوامره الكريمة بدراسة وإنشاء جمعيات تعاونية في السلطنة. وعلى الرغم من مرور سنوات طويلة على هذه الأوامر، وحاجة المجتمع العماني لمثل هذه الجمعيات التعاونية، خاصة ونحن نعيش أزمات مختلفة ومتكررة كالأزمة الاقتصادية قبل سنوات بسبب هبوط أسعار النفط ثم جائحة كورونا وأخيرا حرب أوكرانيا التي نتج عنها وقف إمدادات القمح إلى العالم بسبب سيطرة روسيا على الموانئ البحرية في هذه البلد الأوروبي المطل على بحر واحد فقط وهو البحر الأسود. فقد ارتفعت أسعار القمح والزيوت إلى مستوىات قياسية، بينما قامت الهند التي تعتمد عليها دول الخليج بمنع تصدير القمح للخارج، مما ينذر بمجاعة عالمية قد تظهر في الأفق في الأشهر المقبلة.
لا شك أن التعجيل بإصدار قانون خاص بهذه الجمعيات من وزارة التنمية الإجتماعية بعد التشاور مع مجلس الشورى أصبح من الضروريات، على أن تنشأ دائرة جديدة باسم الجمعيات التعاونية الاستهلاكية للإشراف على هذه المؤسسات، وتُلحق بوزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار؛ فالجمعيات الجديدة سوف توفر آلاف الوظائف للمواطنين، وتقضي على التجارة المستترة المتمثلة في العمالة الوافدة في البقالات والمحلات في مدن وقرى السلطنة؛ كما إنها ستصبح بديلًا للمتاجر الكبيرة المتمثلة بما يعرف بسلاسل "الهايبر ماركت" التي تنتشر على نطاق واسع في مختلف المدن العمانية، ومملوكة في معظمها لمستثمرين من شبه القارة الهندية.
خليجيًا.. تعود الجمعيات التعاونية في معظم دول الخليج العربية إلى عقد السبعينيات من القرن الماضي -خاصة دولتي الكويت والإمارات- إذ يبلغ عدد الموظفين في تعاونيات الإمارات أكثر من 13 الف موظف، وقد اطلعت على تجربة إمارة الشارقة في هذا المجال خلال إجازة عيد الفطر المبارك، وقابلت أحد المسؤولين الذين أكّدوا نجاح تجربة هذه الإمارة التي تحتضن أكثر من 44 فرعًا في أرجاء الشارقة؛ فقد وافقت عمومية تعاونية الشارقة على توزيع أرباح سنوية بنسبة 20% وذلك في شهر مارس الماضي، إضافة إلى دعم 20 الف سلعة بـ30 مليون درهم.
وفي الختام، على جهات الإختصاص في هذا البلد العزيز العمل بأسرع وقت على إنشاء جمعية تعاونية استهلاكية في كل محافظة من محافظات السلطنة، على أن تفتح فروع في المدن والقرى الأخرى التابعة لتلك المحافظة، ويمكن للسكان المحليين أن يساهموا في هذه الجمعيات من خلال طرح أسهم لمن يرغب بذلك كلٌّ في مدينته، وكذلك الاستعانة بجهاز الاستثمار العماني لتمويل هذه الجمعيات دون فوائد.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري