أنتم أبطال حقيقيون!

عبدالله الفارسي

حين زرتُ سيرلانكا قطعت طريقًا طويلًا بالحافلة استغرق حوالي 5 ساعات، وكنت طوال الطريق أحسب عدد بسطات أولئك الباعة الذين يبيعون في الشوارع، فلم يتجاوز العدد العشرين بائعًا، وحين خرجت ذات نهار من مدينتي متوجهًا إلى البريمي ولمسافة 5 ساعات تقريبًا صادفت أكثر من 47 بسطة لباعة عُمانيين يبيعون في الشوارع!

الحمدلله لقد تفوّقنا على جمهورية سيرلانكا في عدد بسطات الشوارع، وهذا يُعدُ إنجازًا اقتصاديًا يستحق التصفيق والرقص والتصفير!

********************************

ذات نهار كأنَّه اللهب، كنت قاعدًا على ضفة البحر، تحميني مظلة من الخشب، من تصميم وإنتاج البلدية، لا مكان هنا؛ حيث الشمس هي الملكة المستبدة والمسيطرة، لا مكان للجلوس سوى البيت أو أن تبحث عن ظل يحميك من اللهب. أحيانًا، أبحث عن ظل ملتهب هروبًا من البيت الملتهب، فكل ما حولك مشتعل وملتهب! ولكن هناك لهب ألطف من لهب.

وأنا جالس ألعن كل ما حولي، فوجئت بسائح أوروبي يمشي على الشاطئ، رافعًا يديه مرحبًا ومُسلمًا عليّ، وربما طالبًا النجدة! فلوحت له بيدي، وعرضت عليه مُشاركتي في جلسة الظل، فرحّب وجاء مُسرعًا مُبتهجًا، فالظل في تلك اللحظة كان يساوي ذهبًا. أفسحتُ له في المقعد وقاسمته الظل الشحيح الذي كان يحميني من غضب الشمس وصفعة اللهب، فشكرني على كرمي ومبادرتي، ودعوتي له بالجلوس. تبادلنا أطراف الحديث، وقال لي: كم شهر في السنة تظل هذه الحرارة تلفح وجوهكم وظهوركم؟ فقلت له: غالبًا 6 أشهر، نتجرع هذه الشمس، وأحيانا تعطف علينا هذه الشمس العظيمة، فتخصم علينا شهرًا واحدًا، رأفة بأطفالنا وحيواناتنا. فقال: كم أنتم أقوياء وصبورين. قلت له: إننا كائنات قوية جدًا، بإمكانك أن تسمينا زواحف بشرية، فأومأ لي موافقًا على كلامي تمامًا. وقال مُعقبًا: فعلا أنتم زواحف بشرية جميلة؛ لأن الحياة في درجة حرارة 50 درجة هي من خصائص الزواحف الصحراوية. فقلت مُعقبًا على تعقيبه: ليس هذا فحسب، فنحن أقوى من الزواحف بكثير، فقال لي: كيف؟ فقلت له: الزواحف تبحث عن طعامها وتعود لجحورها، بينما نحن نبحث عن الوظيفة والأمن والأمان والسعادة والإيجابيات والهدوء وراحة البال، ونسعى لاهثين خلف مُستقبل غامض. وهذه الأمور المعقدة لا يمكن أن تحصل عليها في المجتمع، إلا بعد أن تخوض معركة شرسة وعنيفة مع الطبيعة ومع المجتمع نفسه. وهناك نسبة كبيرة يخسرون حياتهم في هذه المعركة.

قال موافقًا: فعلًا معركتهم مع الحياة عنيفة جدًا، أنتم تصارعون الشمس، وتصارعون الحياة معاً! يا لكم من مخلوقات عنيدة جبارة! ثم قال لي: هل أنت متزوج؟ قلت له: طبعًا، فهذه أهم معركة يجب أن تخوضها في حياتك، ويجب أن تثبت فيها بطولتك وبسالتك. فهنا إذا لم تتزوج حاربك المجتمع، واتهمك بأمور وقضايا لا تخطر على بالك! فقال: لم أفهم ماذا تقصد؟ فقلت له: ليس من السهولة أن تستمتع بحياتك بمفردك؛ لا بُد أن تتشارك حياتك التعيسة مع إحداهن، وتقتسم عمرك مناصفة بينك وبينها. ويجب أن تنجب أولادًا وبناتًا، ليأخذوا أيضًا نصيبهم من عمرك المديد ويذوقوا جزءًا من شقائك الجميل!

فهزَّ رأسه مندهشًا! وقال لي: كم من الأولاد معك؟ فقلت له: ستة أولاد، فقال: ستة! كثير، أليس كذلك؟ فقلت له: لا.. لا.. ليس كثيرًا، فأضعف وأهزل شخص في مجتمعنا ينجب سبعة أو ثمانية أبناء، العملية سهلة جدًا، أسهل شيء وأبسطه في حياتنا هو عمليات الإنجاب والتناسل! نحن شعوب تحب الإنجاب، وتخشى على نفسها من الانقراض، لذلك تتناسل بسرعة كبيرة، وكما قلت لك، ذلك يعود إلى أننا مخلوقات عنيدة وقوية وطموحة جدًا. فقال لي: كم متوسط العمر معكم: قلت له بين 80 و90 عامًا؛ فبحلق عينيه كبومة افريقية، فقال: يا إلهي، كيف تصمد أجسادكم 90 عامًا في هذا الجحيم؟

فقلت له: الشمس لا تؤثر كثيرًا على عظامنا، ولكنها تؤثر بشكل غير مباشر على جماجمنا! واردفتُ: ليس هذا فحسب، فنحن نوزّع التسعين عامًا على الأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف والأحبة. فقال: لم أفهم كلامك، قلت له: منذ وصولنا سن البلوغ ونحن نحمل في ظهورنا مسؤوليات أهلنا، وأبنائهم وذويهم، حتى مسؤوليات جيراننا تكون من نصيبنا؛ لأن ديننا الحنيف أوصى بالجار السابع، فهو له الحق في العناية والرعاية أيضًا. إننا لا نعيش كل هذا العمر الطويل المديد لأنفسنا، إننا نوزعه على المجتمع بأكمله ونقتسمه معه. إذا مرض أحد أقاربك يجب أن تزوره يوميًا، وإذا لم تزره لعنوك ليل نهار. وإذا تزوّج أحدهم، يجب أن تكون حاضرًا بارزًا في العرس، وهناك من يُراقبك، ويسجل حضورك وغيابك، وإذا لم تحضر، كانت هناك عقوبات في انتظارك. وإذا مات أحد أقاربك أو أحد جيرانك يجب أن تمشي في جنازته، وتشارك في حث التراب على قبره، وتشاركهم ثلاثة أيام العزاء، واقفًا وقاعدًا. وإذا لم تحضر، فلن يمشي أحد في جنازتك، واحتمال كبير أن تتعفن في المكان الذي مت فيه!

ولا بُد أن تزور أقاربك وأرحامك، وأصدقاء والدك، وصديقات والدتك، فهذا دين عليك يجب أن تسدده قبل موتك. وإذا مات أحد أصدقاء والدك في منطقة بعيدة، يجب أن تتكبد المشاق وتقوم بواجب العزاء؛ لأجل المرحوم والدك- رحمه الله- سيسعد كثيرًا في قبره حين يعلم بذلك، وسيغضب كثيرًا إذا لم تفعل، وسيقول عنك الناس إنك ابن عاق سفيه!

وحين ينهي أبناؤك تعليمهم الجامعي يجب أن تشمِّر عن ساعديك وقدميك وتلهث في كل مكان لتبحث لهم عن عمل، تقرع كل الأبواب وتتسلق كل الجدران وتقف خلف كل النوافذ لتحصل على وظيفة لهم، وتتصل وتتواصل مع كل أصدقائك القدماء الأوغاد وتحني رأسك لهم لأجلك عيون أبنائك.

وأيضًا يجب أن تتحمل مسؤولية أولادك حتى تصبح أعمارهم 40 عامًا.. تزوجهم، وتوجههم، وترشدهم، وتحل مشاكلهم الصغيرة، وتتحمل مصائبهم العظيمة. تُنفق عليهم، وعلى أبنائهم الذين ينادونك بـ"جدي" بكل حب وجمال وروعة.

وإذا- لا قدَّر الله- حدث تصادم وتنافر بينك وبين زوجتك وانفصلتما عن بعضهكما، وأردتَ الزواج مرة أخرى، فستواجه عاصفة من العقبات، وستتعرض لكارثة من العراقيل حتى تظفر بزوجة أخرى وشريكة جديدة. وإذا تزوج ابنك أو ابنتك يجب أن تساهم معهما في بناء بيته وتأثيثه، وصبغه وتلوينه. وإذا حدثت مشاجرة في أحد بيوت العائلة يجب أن تكون حاضرًا لفك الشجار، وإصلاح القلوب، وتضميد الجراح ورقع الخلاف..

المهم يجب أن تكون فاعلًا متفاعلًا مهروسًا مطحونًا في بطن المجتمع حتى تلفظ أنفاسك الأخيرة وتغادر الحياة مرفوع الهامة شهيدًا كريمًا عزيزًا.

فضحك، وطبطب على كتفي برفق وحنان كطفل تعيس، وقال لي: يا لحياتكم البائسة المذهلة يا صديقي، ليس لديكم أنهارا تغسلون فيها رؤوسكم، وليس معكم ثلوج تطفئون فيها غضبكم ولهيبكم، وليس معكم غابات وأشجار تريحون بها عيونكم وأرواحكم، ومع ذلك تعيشون بصحة جيدة حتى التسعين عامًا، وتتجاوزونها.. أنتم فعلًا أبطال حقيقيون!