علي بن سالم كفيتان
بات التصنيف العالمي لوضع البيئة في أي بلد معيارًا مهمًا لقياس مدى التزام البلد بسلامة الكوكب وحماية الإنسان، ولذلك نجد أن رؤى الدول واستراتيجياتها المتوسطة والبعيدة المدى تطمح لبلوغ مستوى متقدم في التصنيف ليس من أجل حماية المفردات البيئية فقط؛ بل كمؤشر على جودة الحياة وجذب الاستثمارات.
وقد يعتقد البعض خطأً أن المعيار البيئي للدول هامشيًا، فتقل ممكنات الرصد البيئي ويتراجع مستوى بناء القدرات الوطنية المتخصصة في عمليات قراءة آخر ما توصل إليه العلم، ويكتفى بإرسال تقارير نظرية في غالب الأحيان مكررة، ولا تستند لمحطات رصد واسعة الانتشار على كامل التراب الوطني، ولا تمثل مختلف البيئات والنظم. وهذا بدوره يولِّد ضبابية في المعلومات والبيانات الواردة للمنظمات الدولية ومراكز الرصد العالمي، التي تقوم بإعداد التصنيف العالمي لحالة البيئة في مختلف دول العالم، وهنا تتفاجأ بعض تلك الأقطار بتراجعها في التصنيف العالمي سنويًا، وعدم وجود تحسن يساوي قدر الجهد المبذول على الأرض.
وللحصول على تصنيف بيئي دقيق لحالة البيئة تأتي الشفافية في مقدمة العمل، فليس بالضرورة أن تكون الدولة مُسيطرة على كل المؤشرات وتمنحها القدر الكافي من الاهتمام، بقدر الوضوح في عرض الإمكانيات المتاحة للمراقبة. ففي كثير من الأحيان تكون التقارير الوطنية مبالغًا فيها، ومصادر المعلومات شحيحة، ناهيك عن فقر مواقع التواصل الاجتماعي للسلطات البيئية للدول، ومن هنا تعتمد مؤسسات التقييم على مصادر بديلة بحثًا عن المصداقية، مما يعكس الصورة ويضع بعض البلدان في مراتب متأخرة. لذلك تأتي مرحلة تبادل المعرفة بآليات التقييم كضرورة قصوى في بداية بناء هذا العمل، ويتم ذلك في الغالب من خلال الاستعانة ببيوت خبرة عالمية، أو عبر مذكرات تفاهم مع دول لديها نهج تقييمي رصين، يُمكن من خلاله بناء القدرات الوطنية على مراحل، لإجراء التقييم حسب المؤشرات المعتمدة، منها على سبيل المثال: نوعية المياه العذبة، والمياه الساحلية، والتنوع الأحيائي والمحميات الطبيعية، وإدارة استخدامات الأراضي، والغابات الطبيعية والمزروعة، وجودة الهواء، ومعدلات الضوضاء، وكفاءة الطاقة، ووسائل النقل، وطرق إدارة المخلفات الصلبة والسائلة.
وتستوجب مرحلة تبادل المعرفة إنشاء ما يُعرف بالشبكة الوطنية للخبراء البيئيين مع ممثلين من الجهات ذات العلاقة بآليات تقييم الوضع البيئي، ويخضع أعضاء الشبكة لورش عمل مكثفة تؤهلهم للقيام بالمهمة بشكل سنوي، وفق قاعدة بيانات يتم بناؤها لحفظ وتحليل المعلومات الواردة من مواقع الرصد والمراقبة وإخراجها بصورة نهائية على هيئة أرقام وخرائط وأشكال بيانية، وبهذه الطريقة تستطيع كل دولة الحصول على مستوى تصنيفها عالميًا بشكل ذاتي، ويمكنها من المحاججة في حال وردت بيانات مغلوطة أو غير دقيقة في أي تصنيف.
هناك عدة نماذج متبعة في العالم لتقييم حالة البيئة والخروج بمؤشرات عامة يمكن من خلالها تصنيف الوضع البيئي للدولة ومن أبرزها نموذج القوى الدافعة "DPSIR" الذي يعرِّف القوى الدافعة "Driving Force" والضغوط "Pressure" والحالة "State" والتأثيرات "Impact" والاستجابة "Response"؛ حيث تعرف الحالة بأنها مجموع الصفات البيولوجية للموارد البيئية (الهواء، الماء، التربة... إلخ). ومن المعلوم أن هذه الصفات يتم تغييرها من خلال حجم الضغوط مما يؤدي إلى تدهور حالة البيئة عن طريق الانبعاثات والمخلفات بمختلف أنواعها وأشكالها وفي الغالب معظم هذه الضغوط يكون منشأها الجانب البشري وهو ما يسمى "القوى الدافعة" مثل الأنشطة الزراعية والصناعية والنقل وغيرها مع عدم استبعاد نشوئها بفعل العوامل الطبيعية وهذه التغيرات تؤدي بدورها إلى حدوث "مؤثرات" على صحة الإنسان والكائنات الحية في النظم البيئية المختلفة وانعكاسها كذلك على النواحي الاقتصادية. ويتيح هذا المؤشر المطبق في الاتحاد الأوربي معالجة المؤثرات وتعديلها أو القضاء عليها بواسطة "الاستجابة" التي هي عبارة عن الإجراءات المتخذة للمعالجة؛ سواء أكانت من خلال القوانين والتشريعات، أو اللوائح التنفيذية، وخطط العمل وغيرها من سُبل الاستجابة بحيث يتم معالجة المؤثرات الضارة والسلوكيات الخاطئة في مختلف المجالات ذات الصلة بمؤشرات التقييم.
وتُعد التقارير الوطنية الرصينة لحالة البيئة في أي بلد خزينا معرفيا مهما يمكن من خلاله معالجة جميع الظواهر بسهولة ويسر؛ حيث إن وفرة المعلومات والبيانات الدقيقة، بمثابة التشخيص الدقيق للحالة مما يتيح التدخل المباشر لموقع الخلل، كما تعد هذه التقارير عاملًا مهمًا لسلامة الإنسان وأمنه واستقراره، وتساهم بشكل فاعل في تدفق النماء الاقتصادي والثقة العالمية، مما يولّد مناخًا مثاليًا للرفاه الاجتماعي المنشود في أي قُطر من أقطار العالم.