من ينقذ ثروة الآباء والأجداد؟!

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

تعدُ الثروة الحيوانية في أي بلد في العالم صمام الأمان للأمن الغذائي، لكونها مصدرًا أساسيًا للحوم والحليب ومشتقات الألبان المختلفة، فقد كانت الإبل في السلطنة قبل النهضة العمانية المعاصرة؛ الناقل الأساسي للناس، حاملة أمتعتهم وأسفارهم إلى المناطق البعيدة والقريبة، فكانت هذه الثروة الوطنية جزءًا أساسيًا من حياة أبناء الأرياف والبدو في الجبال والسهول والصحاري العمانية المترامية الأطراف؛ لكونها رمزًا للفخر والعطاء والكرم، ليس فقط في عُمان؛ بل في الجزيرة العربية وأفريقيا.

لكنها في نفس الوقت، تعرضت الإبل والأبقار والأغنام للاستنزاف في الوقت الحالي وعلى وجه الخصوص في محافظة ظفار التي تحتضن معظم الثروة الحيوانية في السلطنة والتي تقدر بمئات الآلاف، وهي كل ما يملكه هؤلاء المربّون البسطاء من إمكانات مالية ودخل؛ إذ أصبحت مع مرور السنوات، عبئًا عليهم وعلى أسرهم، في غياب شبه كامل للدعم الحكومي، ويتطلعون للوزارات المختصة أن تقدم لهم يد العون والمساعدة للاستمرار في تربية هذه الحيوانات التي تعتمد عليها شريحة كبيرة من السكان في مختلف مناطق السلطنة. وتكمن أهمية الذين هم متمسكون بتربية هذه الحيوانات باعتبارها جزءًا من تراث وتاريخ المنطقة وعادات وتقاليد الأجداد عبر العصور، ورصيدا مستقبليا للأجيال القادمة في عالم يشهد أزمات وكوارث وحروب عديدة، كما هو حال حرب أوكرانيا الحالية ومن قبل جائحة كورونا، وغيرها من الأزمات الاقتصادية، التي تتسبب في وقف سلسلة الإمدادات عن الدول المستوردة والمستفيدة من دول المنشأ. وفي هذه الأيام الصعبة من السنة وقبل موسم الخريف، ترتفع أصوات المربين محذرة من زيادة أسعار الأعلاف والحشائش التي تعد في معظم أشهر السنة المصدر الوحيد لتلك القطعان، خاصة بعد انتهاء موسم الرعي، وزوال واختفاء الحشائش من السهول والجبال في المحافظة. ومن المؤسف حقاً ظهور بعض الشائعات عن ارتفاع أسعار الأعلاف للمرة الثانية قبيل إجازة عيد الفطر، كما إن بعض المصانع أوقفت الإنتاج لعدم توفر مواد خام كالنخالة، وترتب على ذلك نفاد كل أكياس الأعلاف من الأسواق، ودفع البعض للبحث عنه فيما يعرف بـ"السوق السوداء" وبأسعار مرتفعة وذلك خلال الأسابيع الماضية.

وبدأت أزمة ارتفاع أسعار الأعلاف منذ مطلع العام الماضي 2021؛ إذ تقدمت بعض المصانع بطلب رفع الأسعار، بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام التي يتم استيرادها من الخارج مثل الذرة والنخالة والصويا وباقي المواد التكميلية، وذلك قبل ظهور الأزمة الحالية على السطح والتي نتجت عن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، اللتين تنتجان كمية كبيرة من الحبوب، ثم يتم تصديرها إلى مختلف دول العالم، وبالفعل أقدمت شركتان من الشركات الأربع في المحافظة على رفع الأسعار بعد موافقة هيئة حماية المستهلك على التسعيرة الجديدة؛ بنسبة تصل إلى 20%، وإن كان بعض المربين يعتقدون أن الزيادة أكثر من النسبة المعلن عنها، بينما امتنعت شركتان عن رفع أسعارهما تجاوبًا مع مناشدة المواطنين وتضامنًا مع ظروفهم الصعبة وقلة إمكانياتهم.      

وطوال الأشهر الماضية، تواصل معي العديد من مربي الثروة الحيوانية في المحافظة لنقل معاناتهم للمسؤولين عن هذا القطاع المهم عبر هذه النافذة الإعلامية، وذلك لإيجاد حلول منصفة لهم من الشركات التي تصنع الأعلاف في محافظة ظفار، وكذلك الشركات الحكومية التي تستورد الإبل والأبقار والأغنام من خارج السلطنة وتمتنع عن شراء المنتج الوطني من المربين، وذلك بتقديم حجج واهية غير منطقية بدعوى أنَّ هذه الحيوانات غالية بالمقارنة بالمستورد من الخارج.

ولقد تابعنا خلال السنوات الماضية قيام الحكومة ممثلة في وزارة الزراعة والثروة السمكية (سابقًا) قبل التشكيل الوزاري الأخير، بتأسيس العديد من الشركات الحكومية التي تهدف إلى تأمين الأمن الغذائي للسلطنة؛ حيث تم صرف عشرات الملايين من الريالات العمانية من خزينة الدولة لتوفير اللحوم والدواجن والألبان ومشتقاتها والمرطبات، والكل استبشر خيرًا بهذه المشاريع الوطنية التي يفترض في البداية أن تعتمد وتشجع شراء الحيوانات محليًا، وخاصة الإبل والأبقار بقيمة السوق، ثم الاتجاه للاستيراد من الخارج لتكملة النقص إن وجد.

ولكن تم تجاهل الثروة الحيوانية في مختلف مناطق السلطنة، واتجهت هذه الشركات الحكومية إلى الاستيراد من خارج السلطنة لتحل مشكلة التصحر في بعض الدول التي تقوم بالتخلص من الكميات الزائدة من الثروة الحيوانية خاصة الإبل. ولا شك أن أسعار اللحوم المحلية أعلى بقليل من اللحوم المستوردة، نظرا لجودتها واختلافها عن الإبل والأبقار والخرفان والأغنام التي تستوردها شركة البشائر من العديد من الدول الأفريقية ودولة قطر.

فمن الحكمة أن ينظر المسؤولون عن القطاع الزراعي والثروة الحيوانية في البلاد إلى المربين الذين يعانون الأمرّيْن؛ بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف واحتكار الشركة المملوكة للحكومة لسوق اللحوم، وذلك من خلال التوصيات الآتية:

أولًا: دعم الأعلاف والحشائش للمحافظة على السعر الذي كان قبل عامين، خاصة إذ عرفنا أن الحكومة تملك 60% من أصول الشركة الوطنية للأعلاف، كما تستحوذ الحكومة على 50% من شركة المطاحن العمانية التي أيضا تعد من أهم منتجي الأعلاف في السلطنة، كما إنها تملك- أي الحكومة- أكبر شركة لإنتاج الحشائش في منطقة النجد في محافظة ظفار، وهي شركة النجد للتنمية الزراعية التي يقدر رأسمالها بحوالي 13 مليون ريال عماني، وعلى الرغم من ذلك يعاني المربُّون بين وقت وآخر من نقص حاد في كمية الحشائش التي تُباع في الأسواق.

ثانيًا: الاعتماد على الثروة الوطنية من خلال شراء الإبل والأبقار بقيمة تناسب المربين، ولا تبخسهم حقهم؛ لكون تربية هذه الحيوانات مكلفة، وذلك بدلًا من الاستيراد من الخارج.

ثالثًا: كل الجهات الرسمية في هذا البلد العزيز أن تعمل على المحافظة على البيئة والتوازن الطبيعي للغطاء النباتي في ظفار، خاصة الجبال والسهول التي أصبحت موردا أساسيا للسياحة، إذ يجذب خريف ظفار سنويًا مئات الآلاف من الزوار من دول الخليج وشمال السلطنة، لكن الوضع هناك أصبح خارج السيطرة بسبب زيادة عدد الحيوانات وتأثيرها السلبي على المراعي خاصة الأشجار والتربة بشكل عام؛ لذا من الحكمة التقليل من هذا الكم الهائل من المواشي والاستفادة من لحومها عبر الأسواق المحلية، بدلًا من صرف الملايين على استيراد الماشية من الأسواق الأجنبية.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة