جزء من النص مفقود

 

منال السيد حسن

عودتني الحياة أن الأحلام وُجدت لكي تبقى أحلاما!.. ربما يكون الجميل فيها أن بإمكانها أن تبقى كما هي بقدسيتها.. تضعني على حد الشغف الدائم.. والأمنيات التي ربما تكون أحيانًا بمثابة أشياء غير حقيقية؛ ولا زلت وسأبقى ممنونة للأحلام التي التقيت من خلالها بما أريد بمزيد من الألفة والمودة.. ورغم أني أخشاها كثيرا وأنها لا تتكرر كثيرًا فأنا أعتبرها عزيزة أيضًا إلا أنها أكثر ما أخافه!! أنا قلقة بطبعي ووحدها من تعاملني على قدر قلقي ووحدها من تفهمني على قدر خوفي!! وأرجوها ألا تفرقني عن أمنياتي المستحيلة!

كذلك الكتابة؛ هي جُرحي وليست ترف الحياة؛ سواء في الحب أو الموت، الحياة صاخبة جدا بعيدا عنها.. التأمل.. زهر البوح وذبوله، تأتينا رغما عنَّا محملة بالأناشيد التي نحبها.. وغابة من الحرائق فوق السطوح الباردة.. وأحيانا مسحة الرحمة واللطف.. أن أكتب؛ يعني ثمَّة شعور عميق يأكلني أكلًا ويقضمني من الداخل!

لم أعلم حينها كيف لأحدهم إن مد لي يديه وكأنه صب لي نهرا واسعا بداخل البحر البعيد - نداءٌ عجيب! حقيقةً رغبتُ لكوني هنا في هذه النقطة التي تجعلني لا أبالي لمجريات الأمور التي لا تعكس شخصيتي الحقيقية ولا ما بداخلي بقدر ما تبرهن على عمق الشعور ذاته!! ولا أعلم أن شيئاً -لا أعلم ماهيته- كيف له أن يحدث بالأساس في وسط تلك العواصف والأنواء والسفر بلا شراع على مراكب الأمل البعيد؛ إنها الأحلام المحالة.. والرجاء غير القابل للامتثال!

ثمة شعور نبتغيه كأن يأتي ما نريده محملًا بشوقٍ يقلب طاولة الغياب!

وما زلت أتساءل كيف أن مرارة الفقد تستبيحنا هكذا؟! كيف للأشياء التي تجعلنا نحلق أن تكسر أجنحتنا في الوقت ذاته؟! كيف لاثنين لم يفترقا ألا يلتقيا.. ألا يلتقيا أبدا؟! كبرت وعرفت أن الحياةَ مرادفها الموت أو الوقت! وأن الألم دليلُ إثباتٍ أننا على قيد الحياة!.. وأدركت ما تفعله بنا تعاويذ الغياب.. والخلود هو عصاي التي أتوكأ عليها وأهش بها على إنسانيتي ولي فيه مآربٌ أخرى!

خلودٌ لا يقبل الهدنة أو المساومة!

حسنا.. أنا (امرأة) يأكلها التعلق وهو شيء مميت لي. كل من يشبهني يعلم كيف أن تكون مريضا بالهوس تجاه شيء ما.. أحد ما! لدي علاقة وثيقة مستترة بكل ما أحب ومن أحب.. وأعلم أن جنوني به شيء من الإنسانية يمنحني تمسكًا بالخلود والكون بما يحويه من أمور قارضة تأكلنا على مهل وتنخر داخل تأملاتنا الرحبة إلا أن جذور تشبثي بالأبد كمقود نحو مجرة تتنافس كائناتها على البقاء وترفض الخروج إلى هرج البشرية.. حرب ضارية ليس البقاء فيها للأقوى بل للأكثر استحقاقا للحياة!

وإني أخاف من جميع الأشياء المؤقتة؛ يؤرقني جنوني بالأبد في كل شيء؛ ومعه شيء من تعاستي يكبر!! والخوف ظاهرة صحية؛ جعلتني أتيقن "أن من لا يخاف إما مجنونا أو لا يشعر".. ونحن هنا في منتصف الأشياء؛ المنتصف اللعين.. حيث يتوقف كل شيءٍ عن الهداية!! حتمًا لم يكن السكون هو الحل ولا أن نبقى في فراغ الدوائر المغلقة ولا أن نعرف طريقًا للضياع!!.. وأتساءل كيف نملك مفتاحًا للصبر وهو عاجز عن إنجابه؟!.. غرفة بداخلي الوقت فيها أبرد من جليد روما! بيد أن مسحة الرحمة ضلت طريقها حين فقدت الإنسانية صوابها!

كم رجوت أن يفاجئني أحدهم بشيء يأخذني خارج ألسنة اللهب في دمي وألسنة الدخان المتصاعد في عقلي!.. سئمت قول الأشياء ذاتها ونسيت أن أنسى ألا أقولها!.. تعبت الصمت تعبت الكلام.. بحر أزرق يشدني نحو الموت الجميل !.. هيأت له كل شيء وأشعل في صدري مرارة الفقد التي اعتدتها من الجميع!.. لا أحد يعلم كيف أن القلب يعوي.. كيف أن الروح لا تعلم كيف أن ترخي حزنها جانبا؟!

وأحلم أن تُنزع الصحاري من داخلي.. أن تستفيقني !! أنا لست أدري كيف يكون الاستغناء لكني أعلم شيئا واحدا؛ أن وجود أحدهم -وإن لم يكن هنا- يعني الحياة على اتساعها وأن غيابه يعني انهياري على مداه واتساعه!

سألتني إحداهن كيف تحاربين الصعاب؟! قلتُ بتلقائية -ليست هي الحقيقة ولكني أرجوها- أواجهها.. أشربها على مهل.. أصبح مفضلتها وتصبح مفضلتي.. يلتقي كلانا بكل الدهشة.. نتلذذ بغرائب الأشياء.. مضى وقتٌ طويل على محاولات نجاح الإنفصال.. صرنا صديقين حميمين ندرك أن تقبل الأمر الذي آل إلينا وصرنا بعضا منه؛ مصدر سعادتنا الوحيد!! في حين أن الحزن هو مصدر غذاءنا الوحيد أيضا؟! ودائما في علاقة وطيدة معنا.. ينحت نفسه في وسائدنا كل ليلٍ لا ينام؟! يثقبنا ونحن مثقلون بالحنين.. وفي كل محاولات ضبط النفس للخروج من لحظات الحنين الحرجة؛ نكتشف أن ثمة حنين لأحدهم يشذ عن القاعدة! ثمة مغالطات شعورية تصيب سلامة النفس وسلامة الاعتقاد وسلامة الظن! تفسيرات عجيبة وقاتلة في كل لحظة يتفطر فيها حال القلب، ولا جدوى من محاولات وضع الأعذار التي تتحول بالطبع لموجات غضب نشهرها في وجه من نحب في كل مرة يخفق القلب حد الجنون!

يقولون (النوم يشفي)؛ أن تخبر أحدهم أو إحداهن بذلك لن يمحو حقيقة كونه ثورة تشتعل بالداخل! يقول ريلكة "الناس نيام ما شبعوا فإذا جاعوا؛ ثاروا" أو ماتوا!

أمس شرعت بالتوقف عن التفكير في ماهية الحب الحقيقي حتى أني لا زلت كعادتي أرجوه بكل طواعية مني!.. الطريق الممتدة بيني وبينه أقصى من رؤياي! هو شيءٌ عزيز أريده! وعلى الرغم من أني دائما ما أخبر الجميع أن الصمت هو الحل الأمثل لتجنب فقد الأشياء العزيزة.. إلا أنني لا أتوقف أبدا عن الثرثرة في المواقف التي تستدعي ذلك حتى أكاد أخسر ما أخشى فقدانه! فصام عقيم يجعلني أدرك سر حلول الطوفان.. ورُغم أنه الأسباب جميعها لما أعلم إلا أنني السبب الوحيد لما يجهل! ورغم البرق والنار ومطاردة هواجس الليل اللعينة؛ في حلمي سرُ توحدي بما أريد وسرُ بقائي على قيد الخلود اللعين!

لا أحد يعلم كم هو مؤلم أن تستيقظ في أشد حالاتك النفسية توجسا وفجاجة؛ كثير من اللا شيء يرهقني وكل الأشياء مهلكة، في قلبي حملت شيئا فريدا وأظن أني أستحقه، وفي روحي شيء على قدر حلاوته على قدر ما أصابه من مرارة، وتحت لساني كثير من الكلام لا ينفك عن صمته وجميع الذكريات حولي لا زالت تعصف بي كلما أردت الانفلات عنها وكل ما أرجوه أن يوسدني كتف أتكأ عليه لا يخذلني، تعبت من حمل الشتاء في عيني، مزاجيتي صارت حادة، صرت لا أحتمل الشيء عينه مرتين رغم صبري الفريد على الآخرين، أصبحت الشريرة عند بعضهم رُغم أن عاديتي -التي يحبها الجميع- صارت ذنبا أمارسه جهرا ويرجموني لأجله، ولا أعلم هل لا زلت تلك المثالية التي تعرفونها؟! لكني متيقنة أنكم تضحكون من حولي وتسخرون من طريقة ذبحي اللعينة وفي زاوية بعيدة؛ تمسكون بقنينات تنمر رخيصة.. تعربدون وتسكرون وتتهافتون من منكم يخذلني أولا!! وضعت يدي على جانبي الأيسر؛ قطعة بداخله تقول لا وفي جيبي الأيمن رائحة إصراري المشتعل لكل ما أنا عليه وأريده!

حسنا.. كيف يكونُ شعورُ الموسيقى حين تُعزف على أطلالِ قلوبٍ محترقة؟!! وبمَ يشعرُ طائرُ مسكين حين يحلق فوق أنقاضِ أرواحٍ محتلة؟! أحمل في حقائبي القديمة بضعا من الحماقة!.. عراكي الأزلي معها في كيفية التخلص منها.. تجوبها مطارات كثيرة ولا جدوى من ذلك!! أي عبادات نمارسها تطفئ نار الحنين لشيء ما بدواخلنا؟! كل هذا الخراب من يداويه؟! لا شيء يؤلم مثل حقيقة أن تعلم أن بعض الحدائق داخلها مزبلة.. الآن صدقتْ ما يكتب على مرآة السيارة الجانبية "الصورة لا تبدو كما هي عندما تراها" يقول نيتشه "لا تقع ضحية المثالية المفرطة وتعتقد بأن قول الحقيقة سوف يقرّبك من الناس، الناس تحبّ وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام.. منذ القدم والبشر لا تعاقب إلاّ من يقول الحقيقة، إذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها، الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل".

والحقيقة التي أرغب بقولها أن الحياة ليست بهذا السوء؛ نحن السوءُ كله!!.. الأرض ليست بهذا الظلام؛ نحن الذي أردنا العتمة!!.. البحر لا يُغرق إلا من سار عكس التيار!.. القطار لا ينسى أحدا؛ نحن الذين نصل متأخرا!.. القفل كان سليمًا؛ نحن من استخدمنا المِفتاحَ الخطأ!!.. الحلم كان بريئًا؛ نحن من لوثناه بالذكريات المؤلمة!!.. الحب لم يكن جريمة؛ نحن من ظلمناه قِسرًا!! والقلب لم يكن متهمًا نحن من جنى عليه!!.. نفوسنا لم تكن مذنبة؛ إصرارنا كان الجرم الأعظم!!.. وأعلم أن عقولنا ترفض استيعاب ذلك.. لنعتبر هذا للتوثيق دون الأخذ في الاعتبار!

الحقيقة أيضا أن لا شيء يمكنه أبدًا أن يلملم شتات الروح المبعثرة.. كيف يمكننا تجاهل تلك التفاصيل التي تسكن في الشراشف ومسامات السرير الكبير -الذي لا يتسع سوى لصاحبه- ؟!.. كيف للأحلام التي تعتذر عمرها بأكمله عما بدر منها أن تكرر الخطأ عينه كل غفوةٍ أو صحوة؟!.. لا يمكن تخيل طعم الحلم ونحن غرقى!! لا يمكن لفراش الحرية أن يطير وهو لا زال بداخل شرنقته!.. كل الزهور التي نزرعها على أوشحة التأمل مثل رملٍ عنيد يحاول ألا يغتبصه الموج جهرا!.. كل السبل التي تجعلنا نفضل خلوة البحر ومساحات الليل المفرطة؛ محفوفة بهجير الشوق الذي لا ينام ولا شيء يمكنه نزع أنيابه أبدا !!.. يباغتني شيء متسائلا كيف يرغب طائرٌ بذبحه ولديه جناحان؟! وكيف لسمكةٍ أن تحيا إن أبقت فمها مغلقا وكيف لها أن تنجو إن أبقته مفتوحا؟!!.. مذبحة جائني بها الموج الهادر على سرير البحر لتتحرش بي! مذبحة تغض الطرف عن الفجر والصلوات.. كغيمة تائهة يصمت تحت مطرها كل شيء وتجوب في سريانها فيضانات الذكريات.. فنجان من القهوة ينتشي حين تعصف به الريح.. تنفصل حباته على عجل مطلقة صفير الحرية ويبقى الماء وحيدا تائها ولا أحد يعرف هل كان هو الآخر يرغب بالنجاة.. أم سقط ليتلقفه من استحق أن يحيا به!

شيءٌ ضبابيٌ وحيد يأبى ألا يتوقف عن هتافه؛ صوتٌ ترانيم الذاكرة والضجيج العاجز عن المساومة.. نقترب ونحن لا ندرك أننا كلما اقتربنا كلما زادت فرص السقوط إلى الهاوية؛

الدخان يمقت تأجج النيران!!! والخلود هو الحلم الوحيد القادر على عدم إشعال الحطب!! أيقنت أن أغلب الحكايات القديمة لم تكن سوى تكهناتٍ وثرثرة عقولٍ فارغة؛ حتى نيرون رغم جنونه أبدا لم يحرق روما.

علامات الخلود المحفورة بداخل حلمي.. كلما أردتُ محوها.. تآكلت قطعةٌ منه! أقرفص كعادتي.. وكلما أغمضت عيني يختل توازني وأصير ككومة حزن مهترئة بخشوع!! لو تعلم الشمعة التي تحترق بالداخل أنها تحتاج فقط من يشعلها لتنير.. لو كومة القش تدري أن الإبرة التي يريدها الجميع ممدة بخفة بداخلها! هذا الذي تروه يسقط من عيني وأنا أكاشفكم الحقيقة؛ كل ما رغبتُ بقوله لكم ولم تسعفني جراءتي!! ولو أن لي جناحان؟! ربما استطعت أن أشعر أني حية ويمكنني التنفس!!

غدا سأموت ويقولون بطلة بلهاء.. ولكني سأظل الحقيقة الوحيدة في حياة أحدهم.. وسيبقى ظلي يبرهن للعالم أجمع أن الألم المتعفن داخلي كان سلما لسعادة آخرين لا يستحقون الحياة! وذات يوم سيأتي سيلُ الحُلم الذي أريده.. وسيعلم الجميع حينها أن سبب جريانه كان سقوطا عظيما والعجيب أنه لا رفاهية سوف تسدد فواتير ذلك الشعور أو حتى تتجاوزه.. إنها فوضى تأملي!

تعليق عبر الفيس بوك