مثقف السلطة وكاتم الصوت

 

سالم الكثيري

 

كُنّا بانتظار أحد الأصدقاء المحسوبين على الوسط الثقافي عندما اتصل بنا زميل آخر يسأل عن سبب تأخرنا، وعلى سبيل المزاح أخبرناه أننا ننتظر مثقف السلطة، فسأل مازحًا أيضًا هل تنتظرون مثقف السلطة أم كاتم الصوت؟ هذا الموقف الذي حصل بمحض الصدفة هو ما حفزني على كتابة هذا المقال.

ومما لا شك فيه أن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المثقف في نقد ما يحصل في مجتمعه من ظواهر ومشكلات وذلك بهدف تقديم المقترحات المناسبة لمُعالجتها وهذا هو الدور الحقيقي المنوط بالمثقف المستقل. إلّا أن الذي يحصل أن المثقف في الوطن العربي لا يتمتع في معظم الأحيان بالاستقلالية التامة التي تسمح له بالتعبير عن آرائه بشكل صريح ومباشر، خاصة فيما له علاقة بالسلطة الحاكمة وأدائها، وذلك على عكس ما يحدث في العالم الغربي؛ حيث يطرح المثقف أفكاره بكل حرية ما يمكنه من إحداث أثر حقيقي على أرض الواقع.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل يتعداه إلى أن يفقد المثقف العربي في أوقات كثيرة البوصلة ويتحول من ناقد للأخطاء والإخفاقات إلى بوق للسلطة ومدافع عن سياساتها، بدلًا من أن يكون معبرًا عن آراء المجتمع. وهذا هو مكمن الخطر بحيث يتم وأد القضايا الحقيقية وتسطيح طرق مُعالجتها لتتفاقم يوما بعد يوم وتصعب حلولها.

هنا يتبادر إلى ذهني مقولة الدكتور نجم عبد الكريم الإعلامي العراقي المعروف، حين قال في إحدى المقابلات التلفزيونية: "هناك فارق بين المثقف الحقيقي الذي يقدم حلولًا لقضايا مجتمعه، وبين المكتظ بالمعرفة الذي يحفظ كل شاردة وواردة في التاريخ والأدب والفن وغيره ولكنه لا يُقدم أي رؤية نقديه لمعالجة القضايا الحقيقية لوطنه ومجتمعه".

ونحن إذ نطرح هذا الموضوع لا نحمل المثقف سواء كان صحفيًا أو مؤلفًا أو أديبًا أو شاعرًا أو أكاديميًا هذه المسؤولية لوحده؛ بل نُدرك أنَّ هناك أسبابًا وتحديات هوت بالبعض إلى هذه المنزلة التي لا تليق به، ولعل من أهم هذه الأسباب ما تفرضه الحكومات العربية من توجهات وأساليب تجعل هذا المثقف يحسب ألف حساب ويضع ألف محذور لأي فكرة أو رؤية يود طرحها، بحيث لا تعارض وجهة نظر الحكومة أو بعض أجهزتها على الأقل، أو تعارض النمط المجتمعي السائد في العادات والتقاليد والموروث؛ ليتحول المثقف مع الوقت إلى سلاح كاتم للصوت ويجاري الطرفين- الحكومة والمجتمع- طلبًا لرضاهما وخوفًا من سخطهما.

وإذا كان المجرم يقتل بالسلاح الكاتم للصوت شخصًا أو عدة أشخاص على أفضل تقدير، فإن مثقف السلطة يساهم بصمته هذا في القضاء على مشروع الدولة الذي ترعاه ويجاريها وعلى مستقبل المجتمع الذي يعيش فيه، ويعد جزءًا لا يتجزأ منه من حيث يدري أو لا يدري.

ولهذا يتوجب على الدول التي تسعى لحل قضايا أوطانها بمصداقية أن تمنح المثقف الحرية الكاملة لطرح رؤاه بثقة تمكنه من إعمال مشرط النقد بما يخدم الصالح العام، بدلًا من أن يكون جزءًا من عمليات التخدير التي تستخدمها الحكومات لتمرير قراراتها؛ بل ولتضليل شعوبها أحياناً أخرى وهو ما يؤدي بالجميع في المحصلة النهائية إلى الهاوية.

ويتوجب على المثقف في الوقت نفسه أن يتحلى بالشجاعة الأدبية وينتزع دوره الحقيقي من بين فكي الحكومة والمجتمع مهما كلفه الثمن، وقد أثبت التاريخ أن الأفكار البناءة والأطروحات الجريئة التي يواجه فيها المفكرون سياسات الحكومات وصراعات الأحزاب وتشدد المجتمعات، هي التي تبقى ويؤخذ بها مع مرور الزمن، وهي التي تخلد أسماء روادها، وإن كانت قد جوبهت بالرفض والدعاية المضادة؛ بل والتنكيل بدعاتها منذ بداية الأمر، وهذا التحدي هو الذي سيُبيِّن لنا الفارق بين المُثقف المتمكن ذي البصيرة النافذة والرؤية الثاقبة وبين المثقف المكتظ بالمعرفة فحسب.