الفكر الإنساني ورؤى ناقدة للعقاد

 

عبد الله العليان

يُعد المُفكر والفيلسوف عباس محمود العقاد، من المثقفين الموسوعيين في الأدب والفكر والفلسفة وغيرها من قضايا الفكر الإنساني، بحكم اطلاعه الكبير على المعارف العربية والأجنبية، وهو أيضًا من الكُتَّاب البارزين في عصره الذين اهتموا بالفكر الإنساني وفلاسفته ومفكريه، باعتباره فكرًا عامًا قد يتوافق العقاد مع الكثير من القضايا التي تُطرح، وقد يختلف معها.

ومن هذه المؤلفات التي كتبها عباس العقاد، وناقشت بعض الفلسفات الفكرية في الغرب، كتاب "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه"، وكتاب "عقائد المفكرين"، وكتاب "الشيوعية والإنسانية في الإسلام"، وكتاب "دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية"، وكتاب "المذاهب الهدامة أفيون الشعوب"، وكتاب "أثر العرب على الحضارة الغربية"، وغيرها من الكتب والمقالات التي تحدث فيها العقاد عن الأفكار الفلسفية والفكرية في كل مجالاتها، والتي ظهرت وأصبح لها رواجا كبيرا في أوائل القرن العشرين، وهو القرن الذي عاش فيه العقاد الشطر الأكبر من حياته، وانتشار الأفكار الفلسفية بشكل أوسع، مع دخول الاستعمار البلاد العربية، ومنها مصر قلب الأمة ومحورها.

ففي كتابه "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه"، ناقش عباس العقاد قضية الشر الذي ظهر في الحياة الإنسانية، منذ قابيل وأخوه هابيل، وما زال يعشش في الحياة وينغص استقرارها، وتُعد شبهة من أقدم الشبهات التي تواجه العقل البشري منذ الخليقة فكما يقول العقاد: "ليس الشر إذنْ مشكلة كونية ولا مشكلة عقلية، إذا أردنا بالمشكلة أنها شيء متناقض عَصِيٌّ على الفهم والإدراك، ولكنه في حقيقته مشكلة الهوى الإنساني الذي يرفض الألم ويتمنى أن يكون شعوره بالسرور غالبًا على طبائع الأمور. وإذا كانت في هذا الوجود حكمته التي تطابق كل حالة من حالاته، فلا بُد من حكمة فيه تطابق طبيعة ذلك الشعور، ولا نعلم حكمة تطابق طبيعة ذلك الشعور غير الدين".

وفي كتابه "عقائد المفكرين"، ناقش العقاد إقصاء الكنيسة في الغرب في القرن الثامن عشر، وظن البعض أن هذا نقض أو شك في الدين، فيقول: "إن الحضارة الغربية بدأت بالشك في السلطة الدينية لا في الدين نفسه، وأن الدين الذي شكّت فيه أو أنكرته كان هو الدين كما تشبث به الجامدون المتحجرون على التقاليد أو على العرف المُقرر في عهود الجهل والطغيان. فقد ترعرعت سلطة رجال الدين يوم تزعزعت كل سلطة، فشكَّ الناس وأنكروا وثاروا على التقليد وعلى العرف المحفوظ، ثم أذنوا لعقولهم أن تفكر وتقدر، واعتمدوا على العقل وحده، في فهم جميع الأمور". ويستطرد عباس العقاد في مناقشة قضية انبهار البعض في الغرب بالعقل والعلم دون التأكد من قدرتهما على فهم الحياة وسر كنهها، فيقول: "ليس الإيمان بالعقل والإيمان بالعلم شيئًا واحدًا كما يلوح من النظرة العاجلة؛ لأنَّ الناس آمنوا  بالعقل وحسبوا أنهم يفهمون به كل شيء من طريق المنطق والقياس، ومن القضايا والبراهين ... فلما اختلطت عليهم الأمور وقصر بهم العقل دون العلم بالمحسوسات فضلًا عن المغيبات، تحولوا إلى التجربة الحسية ووقفوا عليها جهود العلم الحديث، وفلا علم بغير سند من الحس والتجريب".

وفي كتاب العقاد "المذاهب الهدَّامة أفيون"، تحدث عن الإسلام والشيوعية، وكانت الفكرة الشيوعية في قوة انتشارها آنذاك، والصراع كبير وقتها بينها وبين الرأسمالية، واستطاعت الشيوعية أن تجد لها تأثيرًا كبيرًا في القرن العشرين على وجه الخصوص، خاصة شعار المساواة والعدل وإنصاف الطبقات الفقيرة، ومواجهة الرأسمالية المتوحشة... إلخ، فيقول العقاد في مناقشة الفكر الماركسي: "الشيوعية قد تصبر على المسيحية ولا تطيق الصبر على الإسلام، إلا ريثما تتحفز له وتغل أيدي أتباعه عن المقاومة؛ لأن المسيحية دين العديد من الروسيين والشعوب التي تدخل في حوزة الدولة الروسية، ولأن المسيحية من الجهة الأخرى تدع شؤون الدولة للدولة ولا تتعرض للنظم الاجتماعية أو لإقامة المجتمع على أساس جديد. وقد نشأت المسيحية كما هو معلوم في بلاد تخضع للدولة الرومانية في الشؤون الدنيوية ولسلطة الهيكل الإسرائيلي في الشؤون الدينية فاجتنبت نقض "الناموس" وأوصت بإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وهذا يعني أنَّ هناك اختلافًا كبيرًا في الفكر الإسلامي، عمَّا سارت عليه المسيحية كديانة روحية، وهنا يضيف العقاد قوله: "أما الإسلام فهو نظام اجتماعي له منهجه في علاج المسائل التي تتصدى لها الشيوعية، وهو يُواجه مشكلة الفقر بحلوله المُتعددة ولا يقصر مواجهتها على فرض الزكاة لمستحقيها كما يسيق إلى الظن لأول وهلة؛ إذ يُنكر الإسراف والترف والاحتكار ويأبى أن تكون الأموال "دولة بين الأغنياء" ولا يصدق عليه قولهم إنه أفيون الشعوب لأنه يأمر المسلم ألّا ينسى نصيبه من الدنيا ويحثه على دفع الظلم ومنع الشرور، ويُعلِّم المسلم أن يُقدس الحرية ويثور على المذلة والاستبعاد، فلا يتسنى للحاكم الأجنبي أن يخضعه لغير معتقده أو يسومه الهوان في أمور الدنيا والدين". ولذلك الفروق كبيرة بين الإسلام والماركسية وما أرست عليه الشيوعية بعد الثورة البلشفية التي قادها لينين في عام 1917.

وفي كتاب العقاد "يوميات"، والتي كانت عبارة عن أسئلة توجه من القراء ويرد عليها كتابةً، ومنها إجابته عن الوجودية، وهي فلسفة ظهرت في الغرب. والوجودية تنقسم إلى قسمين: الوجودية المؤمنة، ويمثلها الفيلسوف سورين كيركجارد (1813- 1855م)، والوجودية العدمية التي جاءت متأخرة ويمثلها جان بول سارتر. وهناك فلاسفة آخرون تبعوا هذه الفلسفة قبل تراجعها، ويُعد كيركجارد أهم الفلاسفة الوجوديين، وأكثرهم اعتدالًا في هذه الفلسفة. ويعتقدُ البعض أن ظهور هذه المدرسة كان ردةَ فعلٍ على الرأسمالية المتوحشة التي حادت عن مسار الاعتدال الاقتصادي. ويقول العقاد في هذا الكتاب حول "الوجودية والفوضوية" إنَّه لا شك أن الوجودية مضطربة "... في قواعدها أشد من الاضطراب في قواعد الفوضوية؛ لأنها وجوديات كثيرة لا وجودية واحدة، كما تناقض الفيلسوفان الوجوديان في العصر الواحد والبلد الواحد كما يتناقض الإيمان العميق والإلحاد السافر أو كما يتناقض الزهد والإباحية، ولعل الكثيرين لا يفهمون إلا اللفظ الشائع عن الإباحية الأخلاقية المنطلقة من كل القيود، فيُقبلون عليها لأنها سندٌ فلسفيٌ يسوغون به ضعفهم وانحلالهم، وهم يخجلون (ينبغي أن يخجلوا) من الضعف والانحلال بغير سند إلى الفكر والفلسفة، والأساس الصحيح الذي تقوم عليه الوجوديات السليمة هو إنصاف ضمير الفرد من الطغيان الجماعي على الاستقلال".

ويضيف الأستاذ العقاد في تقييم الفلسفة الوجودية، فيقول: "قد يسمى الوجوديين بهذا الاسم لأنهم يعتبرون وجود الإنسان مُقدمًا على ماهيته، أو يعتبرون أن وجوده لذاته أهم من كونه واحدًا من نوع متعدد والآحاد، فلا حقيقة للنوع الإنساني كله إلا بوجود هذا الإنسان وذاك الإنسان، ولا يصح لهذا أن يكون وجود النوع مُعطِّلًا لاستقلال الشخصية الإنسانية وهي الأصل في الوجود". ومع أواخر القرن العشرين، تراجعت الوجودية، وظهر لها النقد العنيف كعادة الكثير من الفلسفات، وأصبحت فكرة من التاريخ كغيرها من الفلسفات.

ومن الكُتب التي ناقشها الفيلسوف عباس العقاد، كتاب المؤرخ الألماني أُزْوَالد سبنجلر المعنون "اضمحلال الغرب" أو تدهوره، والذي طرح فيه نظرته المتشائمة في التاريخ، بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. ولاقى الكتاب رواجًا كبيرًا؛ لأنَّ نهايته توافقت مع المزاج السائد عَقِب الحرب. وتُرجِم الكتاب إلى اللغة العربية بعنوان «تدهور الحضارة الغربية"، ويقول العقاد عن ما كتبه أُزْوَالد سبنجلر: "كانت للمؤرخ المتشائم دواعيه الفلسفية التي لم يحفل فيها كثيرًا بأحوال السياسة والحرب في تلك الفترة، وكانت للأمة الألمانية كذلك دواعيها التي روجت فيها نعيب فيها فيلسوفها المتشائم، فزاد عدد النسخ التي بيعت من كتابه في ألمانيا الفقيرة على ستين ألف نسخة، لأنها وجدت  فيها عزاءها بعد هزيمتها وانتصار الدول الغربية عليها... ومن الإفراط في تجاهل الدلالات التاريخية أن ننسى دلالة العيب الهائل الذي انطلق منذ نصف قرن من صفحات الفيلسوف الملهم أو صفحات الكتاب... فليست المسألة هنا مسألة الخطأ والصواب في التفكير، ولكنها قبل ذلك مسألة البواعث النفسية التي يدل عليها تحكم هذه الخواطر في تلك العقول".

لكن هل تغير عباس العقاد في رؤيته الفكرية؟ ولماذا اهتم بقضايا العبقريات الإسلامية، وقضايا الفكر الإسلامي؟ وهذه لها حديث آخر.