سالم بن ناصر بن سعيد المسكري **
أعلنت وزارة شؤون الرئاسة بدولة الإمارات العربية المتحدة يوم الجمعة 13 مايو2022 عن وفاة رئيس الدولة وقمة هرمها وقامتها الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان عن عمرٍ ناهز 73 عامًا، كما أعلن البيان الرسمي الحداد على المغفور له بإذن الله تعالى وتنكيس الأعلام لمدة 40 يومًا، فضلًا عن تعطيل العمل بالوزارات والدوائر الرسمية والقطاع الخاص في الإمارات لمدة 3 أيام.
وقد كان لهذا الخطب الجلل أثره على نفوس متلقيه من أبناء دولة الإمارات العربية المتحدة وشعوب دول مجلس التعاون الخليجي والأمتين العربية والإسلامية والعالم أجمع لما عرف عن هذه الشخصية السياسية الفذة من سمات وخصائص تتمحور في جوانب إنسانية سامية راقية.
وبتصفح جوانب من سيرته العطرة الخالدة يتبين لنا الدور الكبير الذي قام به سُّمو الشيخ خليفة بن زايد- رحمه الله- لخدمة وطنه وأمته العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء.
ولد الشيخ خليفة بن زايد في مدينة العين بإمارة أبوظبي سنة 1948 وتلقى تعليمه الأساسي بالمدرسة النهيانية- بمدينة العين- التي أنشأها والده. ومع نبوغه وتألقه في مراحل شبابه الأولى توالت عليه المناصب الرسمية، فكان أول منصبٍ له "ممثل حاكم أبوظبي في المنطقة الشرقية، ورئيس المحاكم فيها" وذلك في 18 سبتمبر 1966 وهولم يتجاوز 19 عامًا من عمره.
وفي 1 فبراير 1969، عُين وليًا لعهد إمارة أبوظبي، وكان عمره آنذاك 21 عامًا، وبعد يومٍ واحد، تولى رئاسة دائرة الدفاع، وكان من ضمن مهامه الإشراف على قوة دفاع الإمارة التي كانت نواة جيش الإمارات العربية المتحدة. وفي 1 يوليو 1971 تولى الشيخ خليفة رئاسة أول وزراء لإمارة أبوظبي إلى جانب تسلمه حقيبتي الدفاع والمالية.
وبعد قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر 1971 وتشكيل أول حكومة اتحادية، أسند إليه منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، إلى جانب مسؤولياته المحلية، وذلك في ديسمبر من العام 1973.
ومع إلغاء مجلس الوزراء المحلي في 20 فبراير 1974 وأصبح الشيخ خليفة أول رئيسٍ للمجلس التنفيذي لأبوظبي الذي حل محل مجلس الوزراء المحلي للإمارة. وقد كانت وظيفة المجلس الأساسية الاستفادة من آراء الشعب وحكمة أعيان القبائل في وضع وتقرير سياسات الدولة سواءً على المستوى الرسمي للدولة أو المستوى الفردي لمواطني دولة الإمارات العربية المتحدة. كما تولى الشيخ خليفة بن زايد رئاسة المجلس الأعلى للبترول والذي تقع على عاتقه مسؤولية الصناعات النفطية والعلاقات مع شركات النفط العاملة في الإمارة. وأسس الشيخ خليفة بن زايد جهاز أبوظبي للاستثمار- وهو من أنجح أجهزة الاستثمار في العالم-الذي يشرف على الاستثمارات المالية للإمارة وأصبح رئيسًا له.
وبعد توحيد القوات المسلحة للإمارات السبع تحت قيادة واحدة وعلمٍ واحد في 6 مايو 1976 عين الشيخ خليفة نائبًا للقائد الأعلى للقوات المسلحة لدولة الإمارات العربية المتحدة.
ومن بين أبرز منجزاته في تلك المراحل من العطاء المتوقد، إنشاء دائرة الخدمات الاجتماعية والمباني التجارية المعروفة باسم "لجنة الشيخ خليفة" في عام 1981، والتي ساهمت وبقوة في توزيع الثروة على المواطنين في إمارة أبوظبي، من خلال تقديم تمويلات سخية دون فوائد لبناء مبانٍ تجارية تدر على أصحابها عوائد مالية دورية، الأمر الذي أسهم في رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين، وفي النهضة العمرانية بالإمارة.
وتعتبرالنهضة العمرانية الإسكانية دليلًا بارزًا على توجه الدولة نحو توفير الحاجات الأساسية للمواطن الإماراتي بما يشمل المسكن والخدمات الأساسية المرتبطة بتخطيط المدن واحتياجاتها سواءً كان ذلك بتوزيع الأراضي ومنح القروض السكنية الميسرة على المواطنين أو ببناء وتوزيع المساكن الشعبية بكافة احتياجاتها في الإمارات السبع.
وتتوالى المنجزات مع تولي الشيخ خليفة بن زايد- طيب الله ثراه- عندما أصبح ثاني رئيس لدولة الإمارات العربية المتحدة والحاكم السادس عشر لإمارة أبوظبي. إثر انتخابه في 3 نوفمبر 2004 عقب وفاة والده المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ المؤسس زايد بن سلطان آل نهيان.
وبعد انتخاب الشيخ خليفة بن زايد رئيسًا لدولة الإمارات العربية المتحدة، أطلق خططًا استراتيجية للحكومة في جميع المجالات من أجل تحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة وضمان الرخاء للمواطنين سائرًا بذلك على نهج والده المؤسس الذي آمن بدور الإمارات الريادي كمنارةٍ تقود شعبها نحو مستقبلٍ مزدهر يسوده الأمن والاستقرار.
كما قام صاحب السمو الشيخ الراحل بدعم مشاريع الشباب وأفكارهم الرائدة عن طريق تأسيس "صندوق الشيخ خليفة للمشاريع"، وذلك لدعم هذه المشاريع حتى ترى النور وتقف على قدميها، ودعم سموه المسيرة التعليمية للإمارة وتطوير المناهج والمرافق التعليمية لمنح الأفضلية لأبناء الدولة والمقيمين عليها.
وقد أشرف الشيخ خليفة- رحمه الله- على تطوير قطاعي النفط والغاز والصناعات التحويلية التي ساهمت بدور كبير في التنويع الاقتصادي، كما قام بجولات واسعة في أنحاء الإمارات السبع ودراسة احتياجاتها وأمر ببناء العديد من المشاريع الإسكانية والطرق وتمويل مشاريع التعليم والخدمات الاجتماعية، كما قام سُّموه بإنشاء مناطق صناعية بكامل مرافقها وتوزيع أراضيها على المواطنين، وقام الشيخ خليفة- رحمه الله- بإعمار المنطقة الغربية ومدنها المختلفة مع المشاريع البتروكيماوية وخاصةً مجمع الرويس والغاز المسال.
ويعد مشروع تطوير الطاقة النووية واستخداماتها السلمية من أهم الإسهامات الحديثة لدولة الإمارات العربية المتحدة مضيفًا بذلك إلى مشاريع الطاقة النظيفة والذي كان تحت إدارة جامعة "مصدر" سابقًا (جامعة خليفة حاليًا).
ويقيناً فأينما نظر الناظر اليوم، فإنه يرى مدنًا حضارية كانت صحراء قاحلة، وأحياءً متكاملة في شرق البلاد وغربها، شمالها وجنوبها، خدماتٌ لا تعد ولا تحصى، يغبطنا عليها العالم أجمع، كيف لا؟ وهو يرى اليوم شبابًا قد اقتحم الفضاء، خدماتٍ صحية فاقت أكثر دول العالم تقدماً، حتى أصبحت البلاد مقصداً ووجهة للعالم يأتي إليها بغية التداوي والتعافي، تعليمًا يركز على التفوق والابداع والابتكار، وما جائزة خليفة التربوية إلا أكبر مثال على تشجيع البحث والاستثمار في شباب المستقبل.
ومن العلامات البارزة في سيرة الراحل الشيخ خليفة سيره على نفس نهج والده في المساهمة في التخفيف من المعاناة الإنسانية في مختلف الأصقاع وأسس في عام 2007 "مؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية" والتي تعنى وتتكفل بمصاريف العلاج وتأمين المأوى والغذاء للمعوزين أينما كانوا.
وكانت لسمو الشيخ خليفة إسهاماته المميزة في حماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية واستصلاح الأراضي وإنشاء المزارع في جميع أنحاء الإمارة وتوزيعها على المواطنين ومن ثم تشجيعهم على تكوين اقتصاد زراعي عن طريق شراء وتسويق المنتجات الزراعية .
ومنعًا للتصحر فقد شجع سُّموه إنشاء الغابات لدورها الفعال في تحسين البيئة والمناخ وحفاظًا على المياه والتقليل من سوء الاستخدام فإنَّ كل هذه الغابات تروى بأساليب الري الحديثة وبمياه الصرف الصحي وذلك تحقيقًا لمبدأ الاستدامة ووحفاظًا على المناخ والبيئة.
كما ساهم سموه في تطوير التشريعات الرامية لحماية البيئة. وحيث إن النخيل والتمور تعد من أول المنتجات المحلية فقد أطلق سموه "جائزة الشيخ خليفة لنخيل التمر" لتطوير الإنتاج والبحوث بالتعاون مع الشركة الدولية لتطوير هذا القطاع الحيوي.
وكان الشيخ خليفة بن زايد أثناء ولايته للعهد مكلفًا- بصفته رئيسًا للمجلس التنفيذي- من قبل والده المؤسس بمتابعة برامج ومشاريع المجلس الاستشاري الوطني تحت رئاسة الشيخ سلطان بن سرور الظاهري وتحت الإشراف المباشر من قبل الشيخ خليفة بن زايد- رحمهما الله جميعًا- والذي كان لي شرف العمل فيه كأول أمينٍ عامٍ له- وكان نواة للديموقراطية والمشاركة الوطنية.
وهدف المجلس الاستشاري الوطني الذي أنشئ في الأول من يوليو 1971 إلى مشاركة أهل البلاد وأعيانها، ومساعدة صاحب السُّمو الحاكم في إدارة شؤونها، والاستفادة القصوى من رأي الشعب وحكمة أعيان القبائل في وضع وتقرير سياسات الدولة، سواءً على المستوى الرسمي، أوعلى المستوى الفردي لمواطني دولة الإمارات العربية المتحدة.
وقد استمر الشيخ خليفة بن زايد كرئيسٍ لدولة الإمارات العربية المتحدة في دعم مسيرة الشورى والديموقراطية واهتم بالغ الاهتمام بتطوير نظام اختيار أعضاء المجلس الوطني الاتحادي للتحول التدريجي نحو الانتخاب مطلقًا بذلك المبادرة الأولى لتطوير السلطة التشريعية وبدء انتخاب ممثلي المناطق والقبائل للمساهمة في وضع السياسات الوطنية.
إنَّ السمات الشخصية المتألقة لسُّمو الشيخ خليفة بن زايد -طيب الله ثراه- والمتأصلة من تواضعٍ وكرم ٍ وحسن استماع واهتمام، امتدت برمتها إلى جلسات المجلس الاستشاري الوطني، وللاجتماعات التي كان يعقدها- رحمه الله تعالى- مع الشيخ سلطان بن سرور الظاهري والتي كان لي شرف حضورها، فكان لسُّمو الشيخ لمساته الشخصية الإنسانية لكل ما قَدم إليه، وكان له دورٌ أساسيٌ في الرقي بدرجة الرفاهية والسعادة لمواطني دولة الإمارات العربية المتحدة.
لقد تميز سمو الشيخ خليفة -طيب الله ثراه- بصفات القائد الحكيم والأب الرحيم تغشاه حكمة العقل وطيبة القلب والبساطة والتواضع. كان مستمعًا لبقاً، حريصًا على الاهتمام بشعبه واللقاءات الدورية بهم مما أكسبه محبة واحترام الجميع من صغار وكبار، رجالٍ ونساء، مواطنين ومقيمين.
وتجدر الإشارة في هذه العجالة إلى العلاقات الحميمة التي تربط القيادة الإمارتية بنظيرتها في سلطنة عُمان، من وشائج القربى وعظیم التفاھم حول مجمل الأمور والمستجدات داخل البلدین الشقیقین، أوبین دول المنطقة، والعالم أجمع. هذا وقد قام حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بزيارة لأخيه صاحب السُّمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان- حفظه الله- رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، لتقديم التعازي والمواساة في وفاة المغفور له- بإذن الله تعالى- صاحب السُّمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان.
ولقد أثبتت دولة الإمارات العربیة المتحدة قدراتھا الفائقة في حسم الأمور وقت الشدائد وتعاظم الإحساس بالأحزان، وأسى الفقدان بانتخاب صاحب السمو الشیخ محمد بن زاید آل نھیّان بالإجماع لیكون رئیساً للدولة. وبالإضافة لما یتمتّع به من حدیث علم ومعارف، وخبرات وتجارب، فھو أيضا خریج مدرسة زاید وقیادته لما یزید عن 60 عامًا، وھي مدرسة الحكمة وصیاغة الشخصیة المتكاملة التي تتعاطى مع مستجدات العمل السیاسي بتجلياته المختلفة بما تقتضیه الظروف، وتتطلّبه المواقف. فھنیئاً لدولة الإمارات خیاراتھا الرشیدة: خیارات الاستقرار والازدهار، ومواصلة البناء والإعمار.
وعودٌ على بدء، كان أبو سلطان- رحمه الله- نموذجًا مشرفًا لآل نھیان الكرام بكل ما یتمتع به أفراد ھذه الأسرة الكریمة من أصالة وطیب المعاني.
رحم الله هذا القائد الفذ وأسكنه فسيح جناته مع الشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وألهم الأسرة النهيانية الكريمة والشعب الإماراتي الأصيل الصبر والسلوان على هذا الفقد الكبير ولا نقول إلا ما يرضي ربنا "إنا لله وإنا إليه راجعون".
** الأمين العام السابق للمجلس الاستشاري الوطني لإمارة أبوظبي (1976- 1983م)