حمد بن سالم العلوي
لستُ أدري لماذا ينظر البعض إلى المتقاعدين نظرة ازدراء وإهمال؟! وكأنهم شرذمة من المرتزقة، دخلوا على التاريخ بصورة عارضة، ففي سلطنتنا الحبيبة تأسست نهضتها الحديثة على أكتاف المتقاعدين، ورغم ذلك فإنهم لم ينالوا نصيبهم المستحق من التقدير الواجب، لا في الجانب المالي ولا حتى المعنوي، وخاصة الرعيل الأول من المحاربين، وهم الذين شمّروا عن سواعد الجد والعمل، وذلك لإخراج الوطن من مجاهل العصور الوسطى، وأظهروه إلى واقعه الحالي المشرق البهي، يوم كانت البلاد تخلو من الكهرباء والطرق والتعليم والصحة، وتخلو من كل شيء من الوسائل الحديثة، فصبروا وثابروا من أجل إعلاء شأن عُمان، رغم أنَّ جوارهم كان جاذبًا للعمل المريح والمال الوفير، ولكن الوطن الحبيب "عُمان" كان الأكثر جاذبية من كل مُغريات الدنيا.
وفي الآونة الأخيرة كثر الكلام عن قانون جديد للتقاعد، والذي قرأ بعض التسريبات المتداولة، ترحم على حظ المتقاعدين، وأُجْزم بالقول؛ لو أن بعض المتقاعدين أُشركوا في إعداد أي قانون يتعلق بهم، لأنصفوا أنفسهم أولًا، ولن ينسوا حظ إخوانهم اللاحقين في نظام التقاعد الجديد، لكن تعودنا على المطابخ المغلقة في إعداد الوجبات للآخرين، والتي يأتي ذوقها غير مناسب للجميع في النهاية؛ لأنه لا يؤخذ بالحكمة القائلة: "لا يشعر بالشيء شعورًا قويًا إلا من يجربه" فخير متذوق لمثل هذا القانون هم المتقاعدون أنفسهم، لأنهم بعد معترك العمل، وجدوا أنفسهم على هامش الحياة جميعها، عدا الموت المحتوم طبعًا الذي ينتظر كل حي.
ترى لماذا يتحاشى صناع القرار لدينا إنصاف المتقاعدين في حقوقهم، أما علموا أنهم هم الأصل في هذه النهضة الحديثة التي تنعم بها عُمان اليوم، وأنهم هم من بذل الروح رخيصة والدم والعرق في سبيل أن تظل عُمان حرّة أبيّة، يوم تكالب عليها القريب والبعيد ظنًا منهم أن عُمان الضعيفة سهلة القضم والهضم وقتذاك!
نحن المتقاعدون.. لقد ظلمنا الرفاق بالإهمال، وزملاء العمل بالغدر والنسيان، وظلمنا التاريخ بكثرة تقلبات الأحوال، وحتى اللغة العربية ظلمتنا في التعبير عن حالتنا، فعبرت عنَّا بالقول؛ بالإجبار على الموت في وضع القعود "مت.. قاعد" فأية حالة مزرية يعيش فيها المتقاعد العربي اليوم، ومتى سنستفيق من غرور الوظيفة والسلطة، فهذا التقاعد إن اعتبرتموه نارًا سندّارك فيها جميعًا، فأجعلوه جنة لأنها ستشملنا جميعًا دون استثناء.
إذن.. لا عجب إن كان حال الموظف العربي اليوم عندما يُبشَّر بالتقاعد كمن بُشِّر بالأنثى في زمن الجاهلية، فيظل وجهه مسودًا وهو كظيم. إنَّ حالة التقاعد ستظل ممقوتة، وذلك إن لم تكن جاذبة وفرحة للموظف، فإنها قد تدفعه وهو في الوظيفة لأن يحتاط لنفسه، وأن يهمل الإخلاص للعمل- إلا من خشي ربُّه- وسينشغل ببناء مستقبله وهو في السلطة، إذن نقول لكم بشّروا الموظف بتقاعد جيد، حتى لا ينصرف باهتمامه بعيدًا عن واجبه في العمل.
إنَّ المتقاعدين في الدول المتقدمة، يظلون في ترقب سعيد وبشغف وشوق كبيرين لساعة التقاعد، ولكن المتقاعد في الدول العربية يترقب هذه الحالة بهلع وخوف؛ لأنه سيُحكم عليه بقرار التقاعد بالفظاظة والغضاضة والإجحاف، ويُخيل إليه وإلى الناس أنه أصبح مصابًا بداء الجرب المُعدي، وبمجرد أن يخرج من باب المكتب يُكسر خلفه (قَحف) دلالة على الإهمال والنسيان وعدم التذكر.
الطامة الكبرى أنَّ الذي كنت تذهب إليه بالأمس- وهو في الوظيفة- وتشكو إليه إهمال النَّاس له، وكان يصعّر خده عنك، ويقول لك؛ إن الحالة الثقافية للتقاعد لم تأخذ مجراها بعد، والبلد لم يعتد على نظام التقاعد، فيوصيك بالصبر الواجب، يأتي هو ليشتكي إليك إهمال الناس له بعد تقاعده، فتقول له بالأمس كنت أقول لكم افعلوا شيئًا يحمي المتقاعدين من هذا الإهمال، فلم تفعل شيئًا وقت وجودك في السلطة، فذق اليوم ما كنت تتجاهله بالأمس القريب.
لقد كتبتُ كثيرًا عن وضع المتقاعدين غير المريح، وكتب غيري الكثير والكثير، ولكن للأسف الشديد لا حياة لمن تنادي. ترى هل يظن المسؤولون أنهم غير مسؤولين عن ذلك في الدنيا والآخرة كذلك؟! ألم يحذّرنا الله من الحساب على مثقال ذرة؟! ألستم كلكم تقرأون القرآن حتى لو مرة في رمضان وتتدبرون آياته؟!
إنّ غلاء المعيشة في ازدياد كل يوم، والمتقاعدون لا يهتم أحدٌ بمعيشتهم إن هي غلت، والمصيبة الأكبر أن المعاشات في الجهاز الواحد من أجهزة الدولة، تتفاوت فيه معاشات المتقاعدين، وذلك حتى وإن تساوت الرُتب والدرجات وسنوات الخدمة، وتتمنى لو تعرف السّر في ذلك، فهل هذا المتقاعد الأقل معاشًا قد تجاوز العمر الافتراضي للحياة (مثلًا)؟! لذلك توجّب أن يخفض عليه الرزق، حتى يلحق به ريب المنون.. وهو في ضعف جسدي، وحتى لا يكون حمله على الأكتاف ثقيلًا؟ّ! وإذا كان الأمر كذلك ما ذنب من يعيلهم؟! إن هو عجز عن إعاشتهم! بالله عليكم فسِّروا لنا هذا اللّغز في شأن المتقاعدين.
الأمر المؤكد أن صنف المتقاعدين، وخاصة الأوائل منهم، سيظل لهم فضل على هذا الوطن، وحتى وإن ماتوا سيظل فضلهم قائما بما قدموا من عمل، وخير في صناعة هذه النهضة المباركة، يوم كانت فيه الحياة العصرية صفرًا، ولولا جهدهم الذي سيخلده التاريخ، لاحتاجت عُمان زمنًا أطولًا من ذلك الذي نهضت فيه، حتى تلحق بركب الدول المتقدمة، إذن يضرع المتقاعدون إلى الله أن يُيسر لهم أمور حياتهم، ويسألون قائد الأمة العُمانية جلالة السلطان الأمين هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله وأبقاه- أن ينظر إلى المتقاعدين بعين الفخر والاعتزاز، لما قدموا لعُمان من خير عميم، وأن المتقاعدين هم ذاكرة التاريخ اليوم، وهم أيضًا بعض كتبته.