الأميرة النائمة

 

فاطمة اليمانية

"العيد عطلة.. تضطهد الوحيدين المنعزلين، والمرفوضين"، جيمي كانون.

***

 

أكثر من ثلاثة أسابيع وهي تصارع الرقاد في جنبات المدرسة.. تكتمُ التثاؤب، وتمسح قطرات الدموع التي تفرّ من عينيها فتتمنى أن تتحول إلى دبٍ قطبي يُمارس السُباتَ بأريحية.. دون منغّصات.. بنفس درجة الأريحية وهي تكتب ورقة التقاعد مبّررة لكل من يتساءل عن قرارها المفاجئ:

  • لماذا؟
  • لأنام!

وليس ثمَّة مخلوق يدرك حجم رغبتها العارمة في النوم، ويعي أنّ قدرتها على مقارعة الشوارع والتوقيت المدرسي.. والجرس تلاشت!!

ساخطة في قرارة نفسها، رغم عجزها عن التمرد والبوح:

  • لماذا لم يجودوا علينا بإجازة طويلة في رمضان!
  • لأنّه شهر عبادة..
  •  أليس النوم عبادة؟!

فتنحرف المقاصد والأهداف؛ لترشقها كل من تسمع سؤالها من زميلات العمل بالسلبية، والخمول، والكسل، وبأنّها عامل من عوامل هدم الأمم، وتقويض أركان العلم! وثمّة عبارات لا تذكرها جيدًا، لأنّ أذنها تلقّفتها بنصف وعي! ودماغها عاطل عن الإدراك! والفهم! لكنّه يردد سؤالا واحدا لأيِّ طالبة خاملة في الحصّة:

  • نائمة؟!

فتردّ وجفونها مطبقة، ورأسها يتدلى كعنق بجعة مكسور:

  • مستيقظة!

ولأنّ كلمة مستيقظة طويلة يقطعها تثاؤب طويل.. ما يلبث أنْ ينتشر في الفصل بين جميع الطالبات..

وجوه شاحبة.. جفون مرتخية.. عيون حمراء دامعة!

وأرجل بالكاد تسحب أجسادها حال سماع الجرس للرحيل!

فتكون آخر نصيحة لهن:

  • نظمن نومكن في رمضان!
  • أخبرينا عن طريقتك؟!

فتحمل حقيبتها، مُتّجهة إلى سيارة تنفث لهباً حارّا في وجهها؛ ليبخّر لهب الحرّ جوفها.. فتستعيذ بالله من نار جهنم.. وتطرد مشهدا من مشاهد السعير المتخيلة.. وتقود سيارتها ببطء شديد.. ليس حرصًا منها على الالتزام بتعليمات الطريق؛ بل لأنّها فعليا:

  • نائمة!

لكنّ عينا أخرى تستيقظ؛ لتعينها على قطع الطريق إلى أن تصل إلى المنزل بأمان!

أو تصل إلى فراشها باحثة عن حلّ لإحدى مشاكلها الأزلية:

  • وهي البحث عن الراحة.. الهدوء.. السلام.. إثبات حقيقة الشعارات الزائفة!

فيقف عقلها حائرا بين كلمتين:

  • شعارات!... زائفة!

ورغم بساطة الكلمتين، إلّا أن الدماغ الخامل يعطيها أكبر من حجمها، ويتعامل معها كما يتعامل مع أصعب المسائل الرياضية المعقدة.. ويتكيف بعد عشر دقائق إضافية على الخدر البليد الذي ينتشر به.. ويؤمن بأنّه الآن من زمرة الأغبياء.. ويحيّي نفسه على هذا الإنجاز!

كما يحيّيها على قدرتها على الاستيقاظ كلّ جمعة نَشِطة قاصدة أحد المراكز التجارية للتسوق لإكمال مشتريات العيد متناسية الكسل، والنعاس، والصوم، والحرّ!

فتجوب أركان المركز التجاري وأقسامه باحثة عن حقيبة صفراء اللون هدية للعاملة التي اكتمل طقم ملابسها في أول أيام العيد عدا الحقيبة!

وكل ذنبها أنّها رغبت في تدليل العاملة؛ فأخذتها الأسبوع الفائت؛ لاختيار ملابس العيد، ولأنّ الأذواق غريزة، أشاحت العاملة وجهها عن جميع الألوان، وقصدت ثوبا أصفر اللون، وقالت مبتهجة:

  • أخيرا!
  • يعجبك؟!
  • جدا!

وأخرجت هاتفها لتريها صورة العيد الفائت، وهي ترتدي ملابس صفراء فاقعة.. وتقول بأنّ اللون الأصفر يشعّ كالشمس! لذلك هو مناسب لصباح أول أيام العيد!

  • فعلا!

فنسقت مع الثوب نعلا أصفرا، وشالا أصفرا، واكتمل طقم أناقتها عدا الحقيبة!

لذلك قصدت ركن الحقائب باحثة عن حقيبة صفراء.. وفي قمّة انغماسها في البحث اصطدمت عربتها بعربة سيدة كانت تمشي وتنظر للخلف، وهي تهدد ابنها الذي اختبأ بين الملابس!

  • اخرج حالا.. وإلّا سآتي لضربك!

ودلّت طريقة كلامها على أنّها من نوع السيدات الجريئات اللواتي لا يتحرجن من رفع أصواتهن والصراخ على أطفالهن في مراكز التسوق..

فابتعدت عن هذه السيدة التي توحي بأنّها جاءت لاكتساح المكان.. متحاشية الاقتراب من أيّ ركنٍ تلمحها فيه، هي وزوجها الصامت، وطفليها المشاكسين اللذين كانت توبخهما كلّما اقتربا من لعبة، أو حاولا انتقاء ملابس لهما، فترشقهما بنظرات غاضبة، وتطلق عليهما أسماءً من غير اللائق ذكرها! أو إقناع الأذن أنّ ثمة أم تطلقها على طفليها في مكان عام، وعلى مرأى ومسمع جميع المتواجدين للتسوق.

لكنّها التقت بها وبعائلتها عند طاولة المحاسبة، وابتعدت مسافة مترين عنهم.. منتظرة دورها، رغم أنّ نظرات السيدة الغاضبة، وهي تضع الملابس على الطاولة لا تبشر بخير..

حيث تناولت علبة ألعاب، وصرخت في وجهه ابنها:

  • تتعمد استفزازي!

ثم ألقت العلبة في سلّة مجاورة أصابت قدم العامل الذي وقف قرب السلّة مدهوشا منها، فما كان منه إلّا أن وضع العلبة في السلّة، وابتعد مسافة آمنة، لأنّه خشي أن تلقي بالمزيد من العلب.. لكن الأمر المثير للغيظ حقا، هو منظر زوجها الذي وقف قربها كشبح، لا يعنيه بكاء ابنه، ولا صراخها في وجهه، ولا بكاء ابنتها التي جذبتها من ضفيرتها؛ لتثنيها عن استعادة علبة الدمية التي ألقت بها بعيدا، وهي تؤنّبها:

  • ألم أقل لكِ بأنّ شراء الدمى ممنوع؟!
  • أريدها.. أريدها!

ثم انتقلت للمحاسبة بعد أن انتهت من الفاتورة، وجادلتها في العرض الكاذب الذي روّج له المركز التجاري! فحاولت المحاسبة إفهامها لمدّة عشر دقائق بأنّ بعض السلع لا عروض عليها، وكُتِب ذلك في الإعلان، وعلى لافتات وُضِعت عند كل قسم من أقسام الملابس، ثم حصرت الملابس التي عليها عرض، وتلك الخالية من العرض، لكنّ السيدة لم تعِ شيئا؛ بل صرخت في وجه المحاسبة بعد أن عرفت مبلغ الفاتورة ممتعضة ومعترضة:

  • خذيها جميعها، لا أريدها!

ثم قالت لزوجها:

  • هيا إلى أحد محلّات التخفيضات.. التخفيضات أرحم!
  • .......

وابتعدوا تاركين المحاسبة في دهشة من سوء أخلاق الزوجة، وبرود الزوج الذي اتّخذ وضعية:

  • اعمل نفسك ميّت!

فلم يُجْدِ صراخها، وعراكها مع أطفالها في إثارة حميّته للدفع، بل ظلّ صامتا محدّقا في هاتفه، إلى أن خرجوا، وهي تردد:

  • لصوص! حرامية!

كان أكثر مشهدا مؤلما هو نظرات الطفلين، وهما يودّعان علب الألعاب، والملابس، كانت نظراتهما شبيهة بنظرات ولدها، حين عاد من عند والده حاملا كيسا به مشتريات العيد؛ فأخرج نعلا من التخفيضات لا تتجاوز الريال، عبارة عن حبال سوداء مجدولة! تظهر الخيوط من جوانبها! ارتداها، فأحسّ بضغط الحبال على أصابع قدمه:

  • تؤلمني!
  • انزعها..

وبعد خلع النعال، قال متأفّفا بعد أن سألته:

  • ألم تجد نوعا آخر غير هذا النوع؟
  • هو اختار لي هذا النوع!

ثم أخرج دشداشة العيد، كانت من نوع القماش الرخيص، مهلهلة كأنّ الخياط أقسم على أن يعبث بها، رغم وعود والده المقتدر له بأنّه سيرتدي أفضل الملابس للعيد!

ثم أخرج "كمّة" وضعها على رأسه؛ لتغطي نصف جبهته بسبب اتّساعها!

فاقترب منها، وألقى رأسه في حضنها، باحثا عن حلّ لمعضلة الكذب الذي يمارسه والده عليه، وعندما رفع رأسه للأعلى سألها:

  • ضريبة الطلاق!
  • ضريبة الحياة..

ففهم وهو في مثل هذا العمر، أنّ للحسدِ كلمته، وأنّ الابن مرآة أبيه، مجرد عبارة تلفظّ بها مأفون! وقد لا يربط بين الإنسان وأبيه إلّا الاسم فقط؛ بل أن يكون هذا الاسم ورقة مساومة للمستقبل..

قالت له مواسية:

  • سترتدي ملابس جديدة.. وسأحضر لك نعلا جديدا.. فابتهج!

نهض قاصدا سلّة المهملات، وألقى مشتريات والده الرديئة، وقال لها:

  • أنا فعلا مبتهج!

ثم قال مدهوشا من أنانية والده:

  • ملابس والدي مختلفة عن ملابسي.
  • أهمّ من الملابس الكرامة!

أعاد رأسه إلى حجرها.. فمرّرت أصابعها في شعره الكثيف.. فسرى في جسده شعور بالارتياح، محاولا عدم الاستمرار في المقارنة التي أدارها ذهنه بين ملابس والده ونعله والهدايا التي ملأت صندوق السيارة، وزجاجة العطر التي وعده بها؛ ولم يعطه شحّا وبخلا وخوفا من زوجته التي تنافسه في البخل والعداء، وقال:

  • عندما أكبر لن أتذكر مشهد والدي وهو يصرخ في وجهي ويسرع خطاه في مركز التخفيضات لشراء أغراض العيد.. لن أتذكر ذلك.. صحيح يا أمي؟ سأنسى؟!
  • ستنسى..
  • وأكاذيبه؟ وهو يردد في الهاتف بأنّي سأكون أنيقا في العيد؟ كان يسخر منّي يا أمي؟!
  • لا تزعج نفسك..
  • هو يتعمد إهانتي وإذلالي؟!

وقضى ليلته وهو يطرح الأسئلة ويدير حوارا محاولا إفراغ ما في جوفه من شعور بالقهر والاضطهاد من والده!

استسلم أخيرا للنوم.. رغم ذلك فرّت بعض الدموع من عينيه المغمضتين.. مسحتها، وطبعت قبلة على جبينه.

 

 

(النهاية)