واقع وتحديات الأمن الغذائي العربي

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

الأمن الغذائي هاجس كبير للشعوب والأوطان منذ زمن بعيد، وزادت أهميته بصورة كبيرة بعد قيام الدولة القُطرية في العصر الحديث؛ حيث أصبح من سمات ومُفردات سيادة الدولة وقوتها وحيويتها، ولم يعد مفهوم الأمن الغذائي يقتصر على توفير الضروريات من الغذاء بل تعداه ليصبح ورقة مساومة سياسية قوية لتحقيق وقائع ومكاسب أخرى على الأرض مع الآخرين.

واليوم، حوَّل الغرب الاستعماري مفهوم ومفردات الأمن الغذائي إلى سلاح ماضٍ لتركيع الدول وإخضاع الشعوب لتكريس تبعيته ومفردات الاستعمار الجديد والتي يشكل الأمن الغذائي لبنة صلبة من أركانها. ونحن في الوطن العربي ومنذ زمن قيام دولة الاستقلال العربي لم يشكل الأمن الغذائي بالنسبة لنا أكثر من مُجرد نشاط فردي أو جماعي غير مُنظم وامتداد لموروث كل مجتمع وقُطر وهذا نتيجة طبيعية- في تقديري- لتزاحم أولويات الدولة الوليدة حينها وشُح الموارد المالية، ويمكن أن يضاف عليها غياب الوعي والموارد البشرية القادرة على إدارة الدولة العصرية وترتيب أولوياتها بالتناغم مابين الموارد الطبيعية والبشرية والعوائد المالية وتوظيفها بالصورة المُثلى.

كنَّا نعتقد وإلى وقت قريب أنَّ قرارًا مثل تحقيق الأمن الغذائي للدولة القُطرية العربية هو قرار سيادي بحت، وأن المستعمر الجديد لا علاقة له من بعيد أو قريب بأيِّ مشروع نهضوي قُطري عربي، ولكن الأيام برهنت أن الاستعمار السابق وعبر آلياته وأدواته الاستعمارية الجديدة والمتمثلة بتكريس التبعية لن يسمح لأي قُطر عربي بتحقيق استراتيجية بعينها يمكن أن تشكل قدوة ونموذجا عربيا يُبنى عليه مشروع عربي مُتكامل.

فحين نتحدث بشكل فردي عن نماذج عربية حاولت تحقيق مفردات من الأمن الغذائي، فلا بُد من استحضار أقطار تتوافر لها عوامل ذلك من موارد بشرية وأراض خصبة ومياه، وعلى رأسها مصر والعراق والسودان وسورية، ولكننا بالعودة والنظر إلى مصير وواقع هذه الأقطار اليوم، سنجد بصمات الغرب واضحة جدًا في تدمير خُطى واستراتيجيات هذه الأقطار، عبر جملة من المُخططات المضادة والتي أوصلت تلك الأقطار إلى مراحل الإنهاك السياسي والأمني والاقتصادي، وحصرت تجاربها بالنتيجة في جهود فردية وإنتاج غذائي عشوائي وغير منظم، وبالتالي إجبارها على العودة إلى استهلاك المنتجات الغربية والسيطرة على قراراتها السيادية ومن زاوية خطيرة وحيوية كالأمن الغذائي.

كل حديث عربي عن الأمن الغذائي عادة يستدعي السودان للذاكرة كدولة يُمكنها أن تكون سلة غذاء العرب، ولكن الواقع يقول إنَّ السودان واقع تحت الخط الأول للمؤامرات الغربية ومنذ عام استقلاله 1956؛ كي لا يُحقق أهم مخاوف الغرب وهو الأمن الغذائي العربي، ولا نحتاج اليوم إلى طول تفكير وعمق تحليل لنلمس حجم التآمر على دولة حيوية مثل السودان بافتعال الحروب الأهلية والإفقار المُنظَّم من الثروات الطبيعية التي تزخر بها، وصولًا إلى فصل الجنوب، وسد النهضة الأثيوبي، وكلاهما يجعلان الثروة المائية لكلٍ من السودان ومصر في خطر دائم.

جميعنا يعلم اليوم أنَّ سورية كانت القُطر العربي الوحيد الذي حقق الأمن الغذائي بفضل استراتيجية زراعية ناجحة في العقود الأخيرة، كما سَلِمَ القُطر العربي السوري من شراك الديون الخارجية، لهذا كانت سورية بمنأى عن الضغوط السياسية الغربية لتمرير أي اتفاق أو تطبيع مع كيان العدو. وتدمير ليبيا والعبث بأكبر مشروع مائي عبر التاريخ البشري وهو النهر الصناعي العظيم يأتي ضمن مخطط تعطيل وإجهاض أي مشروع ليبي مستقبلي لتحقيق الأمن الغذائي عبر زراعة ملايين الأفدنة في الصحراء الليبية المترامية الأطراف والواحات الزراعية الخصبة، إضافة إلى مشروعات زراعية أخرى لتوفير اللحوم الحمراء والبيضاء، كما ستكون ليبيا دولة جاذبة للاستثمار في القطاع الزراعي، ولا يعلم الكثير من العرب عن حجم ونشاط الأسطول الليبي البحري للاستثمار السمكي والذي كان يتواجد بقوة على السواحل الليبية والموريتانية وفي البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ويحقق أرباحًا مالية هائلة.

الأقطار العربية التي تتوافر لها أراضٍ خصبة وتجارب تاريخية تراكمية في قطاع الزراعة مثل المغرب وتونس ولبنان والجزائر، بقيت تحت رحمة الدول الكبرى المُصدِّرة للمواد الزراعية، وكان نصيب العديد منها كميات من البذور الزراعية والمواد المسرطنة والتي قضت لاحقًا على مساحات كبيرة ومنتجات كثيرة، وكما كان نصيب مصر من اتفاقية "كامب ديفيد" وتغلغل الكيان الصهيوني إلى قطاع الزراعة المصري بالتعاون مع الراعي الأمريكي للقضاء التدريجي على أهم مُنتَجيْن لمصر وهما القُطن والقمح. يُضاف إلى ذلك، تسبب انتشار الأوبئة- وبطرق غير مسبوقة ولا مفهومة- مثل إنفلونزا الطيور والخنازير وحمى الضنك وغيرها في نفوق والتخلص من ملايين الطيور والمواشي في عدد من الأقطار العربية واضطرارها للاستيراد من الخارج مجددًا.

إنَّ دولة مثل جمهورية أوكرانيا استطاعت في زمن قياسي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي أن تتبوأ مكانة مرموقة وتنافسية عالمية عالية في قطاع الزراعة، وذلك ليس بجهدها المحض؛ بل بدعم غربي سخي لجعلها دولة وظيفية في خاصرة روسيا، بعد أن كانت من أهم جمهوريات الطوق الروسي في العهد السوفييتي. واليوم يتبين حجم الجهد والرهان الغربيين على أوكرانيا وحجم فقدهم وخسارتهم لدورها الوظيفي والذي لم ينحسر في الإضرار بروسيا؛ بل تعدى ذلك إلى استقطاب بعض العرب لجعل أوكرانيا خزانًا لأمنهم الغذائي بفعل تأثير التسويق الغربي لها، فخسر أولئك العرب الحُسنييْن، النهوض بأقطارهم ورهاناتهم ومدخراتهم بأوكرانيا.

وفي الختام نقول إنَّ الأمن الغذائي العربي مشروع نهضوي بالدرجة الأولى ستُبنى عليه مشروعات استقلالية وسيادية عربية كثيرة لاحقًا، ويمثل استقلالًا عربيًا جديدًا لو تحقق، سواء بشكل قُطري أو إقليمي أو كُلي، فهو لا يقل أهمية مُطلقًا عن حروب الاستقلال المسلحة، ولن يهبنا الغرب مزية ولا عرشًا ولا جاهًا.

قبل اللقاء:

وما نيل المطالب بالتمني // ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وما أستعصى على قوم منال // إذا الإقدام كان لهم ركابا

أبيات من شعر/ أحمد شوقي.

وبالشكر تدوم النعم.