تخطيط المدن واستشراف المستقبل (1- 2)

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي

 

تسعى العديد من الدّول إلى وضع التخطيط السليم والمتكامل الذي يغطي جميع الاحتياجات والخدمات التي يحتاجها السكان من طرق وكهرباء وماء وهاتف وصرف صحي وإنارة طرق وإنترنت، والتشجير الذي هو من جماليات المدينة، وغيرها من الخدمات قبل البدء فى إنشاء أو تعمير هذه المدن.

ويمكن تعريف تخطيط المدن بأنّه: خليط من العلم والفن اللذين يهدفان إلى تنظيم، أو ترتيب، أو التوصل إلى تحقيق الفائدة الأكثر، وتحديد المواقع المناسبة للأنشطة المختلفة. وقد ظهر علم تخطيط المدن من أجل إصلاح ما دمرته الحرب في النصف الثاني من القرن العشرين، بعدما انتشرت آثار التدمير فى المدن الأوروبية، بسبب الحرب العالمية الثانية. وظهر بعد ذلك بسنوات علم التخطيط العمراني الذي هو: عملية جمع للمعلومات المتعلقة بمدينة ما، حيث تحتوي هذه المعلومات على بيانات عن جميع جوانب المدينة المادية والبيئة الاقتصادية والاجتماعية.

ويعدّ الجانب الجمالي فى التخطيط العمراني للمدن جانباً مهماً؛ لما يضفيه على المدينة من جماليات تريح النفس، وتجذب النّاس، وتحببهم فى هذه المدينة. وتسعى الجهات المختصة والمعنية بالتخطيط العمراني للمدن، إلى تشكيل لجان يكون فيها المخطط الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والمهندس المدني، والمهندس المعماري، وممثل إدارة المرور.

ويراعى فى التخطيط: العلاقة المترابطة ما بين العِمارة والسلوك الإنساني، أو ما يعرف بأنسنة المدن التي تعني كل ما يحتاجه الإنسان من وسائل الراحة النفسية والاجتماعية خارج ما يعرف بالبنية التحتية، أو المجمعات التجارية وغيرها.

وقبل الحديث عن بعض التجارب العمانية فى مجال تخطيط المدن، سوف نستعرض بعض التجارب الناجحة فى هذا المجال فى كل من: (مصر، وأبو ظبي وملبورن)، من خلال معايشتنا واطلاعنا عن كثب على هذه التجارب، وذلك ناتج عن: إيماننا بأنّ الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحقّ بها، وأنّ الاستفادة من تجارب الأمم والشعوب نهج سارت عليه الكثير من الدول.

وأولى التجارب المصرية فى مجال التخطيط والعمارة هي:

وسط البلد، التي هي من أقدم أحياء القاهرة وأرقاها تخطيطاً وعمارة، بناها الخديوي إسماعيل (1245هـ/ 31 ديسمبر 1830- 1312هـ/ 2 مارس 1895) إبان افتتاح قناة السويس فى 17 نوفمبر 1869م لتكون واجهة مشرفة لمصر. وتمّ تخطيطها وتصميمها على أحدث الطّرز الأوروبية المعمارية، وتمّ إدخال الإضاءة فى شوارعها، والذي يعنينا هنا هو سعة الشوارع وامتدادها في خطوط طولية وعرضية، ومتانة المباني، والتي مضى على بنائها أكثر من 200 عام.

وثاني أكبر التجارب المصرية في مجال التخطيط العمراني المتكامل هي: (حي المهندسين) التي قُدِّر لي أن أعمل فيه، وأن أسكن فيه لسنوات. ولهذا الحي قصة يجدر الإشارة إليها، فبينما يذكر البعض أنّ البدايات الأولى لهذا الحي، كانت على هيئة فلل محدودة في عهد الملك فاروق، ويذكر البعض الآخر: أنّ الرئيس جمال عبد الناصر هو الذي منح هذا المخطط لنخبة من المهندسين المصريين ليتمكنوا من بناء فلل خاصة بهم.

ومن خلال قراءاتي ومتابعاتي لتاريخ هذا الحي تبين لي أنّ بعض الأراضي مُنحت لعدد من كبار رجال الدولة في عهد عبد الناصر، وسكن هذا الحي عدد من كبار الممثلين والفنانين، ومع أواخر السبعينيات من القرن العشرين بدأ هدم بعض الفلل واستغلال الأراضي الواقعة عليها لبناء أبراج وعمارات.

والذي يعنينا هنا هو التخطيط العمراني المتكامل لشبكة الطرق الواسعة العريضة التي تقطع الحي طولاً وعرضاً، وتتفرع عنها شوارع وسكك أخرى متنوعة ومختلفة الطول والعرض، إضافة إلى الدّوارات والإشارات الضوئية والمنعطفات (u-terns) حتى ليستغرب القارئ إذا علم أنّ مساحة بعض الأماكن فى شارع جامعة الدول العربية يتسع لسبع حارات ذهاباً، وسبع حارات أخرى فى الطريق القادم، بالإضافة إلى الكباري (الجسور)، والأنفاق. كما يتميز هذا الحي بشبكة خدمات متعددة كالكهرباء، والماء، والصرف الصحي، والغاز الذي يصل إلى جميع العمارات، والشقق التي يصل عمر بعضها إلى عشرات السنين، بالإضافة إلى شبكة الهاتف، والنت، والبنوك، ومكائن الصرف الآلي، والفنادق، والصيدليات، والمستشفيات، والمختبرات الطبية (المعامل)، والمساجد، والكنائس، والمطاعم، والمقاهي، والشركات، والمولات العامة، ومختلف أنواع المحلات التجارية ذات الماركات العالمية فى شتى أنواع السلع والبضائع، ويوجد بهذا الحي نادي الزمالك أحد أقدم وأشهر الأندية المصرية.

وفي سياق الحديث عن تخطيط المدن، فإنَّ الأندية شكلت جزءا مهما في تخطيط المدن في معظم المدن المصرية وبخاصة في القاهرة والإسكندرية.

ومن أشهر هذه الأندية النادي الأهلي ونادي الزمالك الذي يعد موقعه الحالي هو الموقع الجديد؛ حيث أنشىء عام 1907م، ونادي الجزيرة، ونادي الصيد، ونادي الترسانة، ونادي هيليوبويلس.

ويشار إلى أن هذه الأندية هي أندية رياضية اجتماعية تتوفر فيها معظم الصالات والألعاب الرياضية وأحواض السباحة إلى جانب المطاعم والمقاهي وصالات التلفزيون والمكتبات والمواقف الكثيرة الواسعة وأجهزة الصرف الآلي. ومضى على بعض هذه الأندية أكثر من 150 عاماً كنادي الجزيرة مثلاً.

وثالث هذه التجارب المصرية الناجحة فى مجال التخطيط العمراني هي: مدينة رأس البر التابعة لمحافظة دمياط، فالشوارع والطّرق مخططة بشكل طولي وعرضي، وبمساحات واسعة شبيهة بالمهندسين.

وقد زرتُ هذه المدينة عدة مرات، ولفت انتباهي اللوحة الرخامية التي كتب عليها اسم أستاذ العمارة بجامعة القاهرة الذي قام بتخطيط هذه المدينة.

ومن التجارب الناجحة فى مجال التخطيط العمراني التي عايشتها عن كثب: مدينة أبو ظبي، فقد قدر لي أن أدرس فى مدينتي العين وأبو ظبي فى بداية السبعينيات من القرن الماضي. ومن الأمور التي لفتت انتباهي: تخطيط الشوارع بطريقة تشبه المدن والأحياء التي أشرت إليها في التجارب المصرية، من حيث طول الشوارع وسعتها، وامتدادها طولاً وعرضاً.

وسمعت أنَّ المهندسين السودانيين والمصريين من جيل الرعيل الأول كان لهم دور في تخطيط أبوظبي ودبي والشارقة.

ومن الأسماء المعروفة المهندس أحمد عوض الكريم السوداني، مدير بلدية أبوظبي لسنوات طويلة، والبروفيسور المصري المهندس عبد الرحمن مخلوف مُخطط مدينة أبوظبي الذي توفي في أبو ظبي منذ سنوات قليلة عن عمر يناهز الثامنة والتسعين عاماً، وقد تقلّد البروفيسور الراحل منصب رئيس دائرة التخطيط فى أبو ظبي لسنوات طويلة، وهناك صورة متداولة للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد مع المُهندس السوداني كمال حمزة رئيس دائرة بلدية دبي، مُمازحاً هذا المهندس بقوله: "يا كمال أريد دبي مثل الخرطوم".

وأعتقد أنَّ التجارب المصرية والإماراتية التي نقلت عن طريق المهندسين السّودانيين والمصريين من جيل الرعيل الأول، تمّ استيحاؤها من تجارب أوروبية، أو أنَّ هؤلاء المهندسين درسوا فى مدن أوروبية، وخصوصاً إذا ما عرفنا أنّ السّودان ومصر كانتا تحت الاحتلال البريطاني، وكان النظام الملكي فيها مولعاً بنقل التجارب الناجحة الجميلة من فرنسا، ومن بعض الدول الأوروبية. وكان العديد من الأحياء فى مصر تمّ تخطيطها على يد مهندسين من مدن أوروبية مختلفة.

ومن التجارب الناجحة أيضاً فى حكومة أبوظبي في مجال التخطيط العمراني: محطات البنزين (تعبئة الوقود)، فهي من الأمور النادرة التي شاهدتها فى رحلاتي وسفراتي فى هذا المجال؛ حيث يلاحظ المسافر المساحات الكبيرة التي بنيت عليها هذه المحطات، وتكامل الخدمات فيها، كالمطاعم والمقاهي، ودورات المياه النظيفة، وأماكن تغيير الزيت، وأماكن تصليح السيارات، وأماكن التسوق السريع، وسيارات الإسعاف.

ومحطتنا الأخيرة فى مجال التجارب الناجحة للتخطيط العمراني هي: ملبورن بأستراليا، التي قدّر لي أن أدرس اللغة الإنجليزية فيها. وكتبت عن أستراليا بصفة عامة، و(ملبورن) بصفة خاصة مقالاً على حلقتين بعنوان "أستراليا القارة البكر.. مشاهد وانطباعات"، ونشرت هذه المقالات فى صحيفة عمان منذ سنوات.

وقد أشرت فى ذلك المقال إلى أنّ كامبيرا العاصمة، هي أول مدينة تمّ إنشاؤها فى أستراليا، بينما تعدّ ملبورن هي أول مدينة في أستراليا، تمّ تخطيطها تخطيطاً متكاملاً جميلاً، وروعيت فيه كل الخدمات والمتطلبات التي يحتاجها الناس، ووضع فى خرائطها الأولى مواقع لكل نواحي الحياة، ومؤسساتها من جامعات، ومدارس، ومتاحف، وحدائق، ومجمعات تجارية، وأسواق، ومتنزهات، وشوارع، وسكك حديد، وسكك للترام، ودور عبادة، ومحطات تعبئة الوقود.

ويلاحظ الزائر أنّ هناك طرقاً للترام (القطار الخفيف)، والسيارات، والدراجات الهوائية، وأماكن للمشاة، ولكل إشارته الضوئية التي تعطي كل عابر، أو مستخدم للطريق فرصته، ووقته المناسب المخصص له.

كما يوجد على جانبي الطريق، وبخاصة فى المدن، أماكن لعبور المعاقين أصحاب الكراسي المتحركة.

وبعد استعراض بعض النماذج الناجحة المكتملة الجميلة فى مجال التخطيط العمراني فى العديد من الدّول، سوف ننتقل إلى بعض النماذج غير المكتملة، أو تلك التي تحتاج إلى إعادة نظر فى بلدنا.

وقبل الدخول في تلك النماذج، فإننا نود التأكيد على أنّ الوطن غني بالكثير من النماذج والتجارب الناجحة، في الكثير من المجالات على مدى أكثر من خمسين عاماً.

تعليق عبر الفيس بوك