مشاهد متكررة من "سينما" رمضانية

 

مسعود الحمداني

samawat2004@live.com

 

 

أيام قليلة ويلملم شهر رمضان أوراقه، مخلفًا وراءه الكثير من المشاهد التي لا يمكن نسيانها، تاركًا خلفه أطيافًا من المقاطع السينمائية المتناقضة التي لا يتخيلها حتى أبرع كتّاب السيناريوهات، فمن موائد عامرة بالأكلات، وصائمون لا يفرطون في الأكل من شيء، ينامون متخمين، ويصحون دون أن يمسهم نصب، إلى صائمين في بلاد أخرى أو في بقعة أخرى يعيشون على التقاط فتات الموائد، وخشاش الأرض، فهم على كل حال صائمون طوال الدهر لا يغريهم رمضان، ولا يغويهم شوال، لا يكادون يجدون لقمة أو ماء على مائدة إفطارهم، يواصلون صيام نهارهم بليلهم.

ويكثر في شهر رمضان مشاهد متسولين يكدسون المال من عرق الآخرين، ويبتزون عواطف الناس، ويستفزون إيمانهم وروحانيات الشهر الفضيل لطلب المساعدة التي قد تكون زائدة عن حاجتهم أحيانًا، وفي المقابل تجد "المتعففين" الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، بينما في واقعهم لا يجدون ما يأكلون أو يلبسون، ولكنهم ارتفعوا بكرامتهم وقدرهم عن مد اليد، وهرق ماء وجوههم على أبواب المساجد مثل غيرهم.

وفي شهر رمضان كغيره تجد مشاهد الغارمين الذين لا يفصلهم عن باب السجن إلا ساعات، بينما تجد جيرانًا لهم متخمين بالمال، ولكنهم لا يأبهون لجارهم الذي أضناه التعب، وأرهقه الدَين، وتجد مشاهد أولئك المسرحين عن العمل يبحثون عن ملاذ يؤويهم من غائلة الأيام، يمدون أعينهم إلى جمعيات خيرية مرهقة هي نفسها من شح الموارد، ولكنها تحاول أن تمد يد العون- قدر المستطاع- لمحتاج أو فقير، أو يتيم، وفي المنتصف تشاهد تلك الأسر التي ضاع مستقبل أبنائها بسبب حكم نافذ على معيلهم ولم يجدوا بعده من يعيلهم، ولا من يلتفت إليهم، وفي المقابل تجد مئات المتبرعين لبناء مسجد أو دار تحفيظ القرآن، بينما جارهم أو أحد أرحامهم يئن من وطأة الحياة، والديون المتراكمة على كاهله.

يمُر شهر رمضان بين كل هذه المشاهد المفجعة، ويرى المسلسلات الخليجية التي أتخمت عين وسمع المتابعين، ومعظمها يحكي قصصًا "بوليوديّة" لا تمت للواقع أو للمجتمع بصلة، ولا تعالج إلا قضايا تحصل في المريخ، بعيدًا عن الأرض، كنا نشاهدها في معظم الأفلام الهندية القديمة، ولكن الفضائيات الخليجية بدأت تتبنى تلك الرؤى الخيالية، محاولة إلصاقها رغما عن أنف المشاهد على واقع غير موجود إلا في خيال مؤلفيه ومتبنيه من مالكي القنوات، ورغم ذلك تتسمّر أعين الصائمين بعد الإفطار على شاشات التلفاز لمشاهدة ما يمكنهم مشاهدته رغم تفاهته، وسطحيته، وعدم احترامه لعقلية المشاهد، والناس- كما يقال- فيما يعشقون مذاهب.

وهناك وليس بعيدًا عنا يتصدى المرابطون الفلسطينيون في القدس لمحاولات اليهود تدنيس المسجد الأقصى بما يملكون من أرواح، بينما يجلس شخص تافه في بلد مترف بالتفاهة يشكك في إيمانهم ووطنيتهم ونواياهم، وبينما تتعاطف حكومات بعض الدول العربية والإسلامية مع شعب أوكرانيا الذي ما زال حديث العهد مع المعاناة، تتجاهل وبشكل متعمد ما يحصل لشعب فلسطين الذي يعاني منذ سبعين عاما أو تزيد من الظلم والقهر والاستبداد الإسرائيلي، وبينما يُباد المسلمون في دول آسيوية "صديقة" تظل بقية الدول الإسلامية والغربية في موقف المتفرج دون حراك، ولسان حالها يقول "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم"؛ بل ويشجعون بشكل مباشر أو غير مباشر الحكومات التي تضطهد المسلمين من خلال التعاون والتنسيق معها، وجلب العمالة الماهرة وغير الماهرة منها، وعلى عينك يا رمضان.

أيام قليلة ويلملم هذا الشهر الفضيل أوراقه، ولن يبقى سوى تلك المشاهد المتناقضة التي نعيشها، والتي لا تفرق بين شهر وشهر، أو يوم ويوم، فكلها عند الناس سواء، لا يختلف بينها شيء، فمظاهر الترف والبذخ لا تتغير، وأودية الدم لا تتوقف، والإجرام لا يأخذ غفوة، والقلوب الغليظة لا تلين، وسياسات التجويع والتخويف والاضطهاد لا تكاد تنتهي، ولذلك يبقى شهر رمضان فارغا من المضمون لدى الكثيرين، وخاويا من المعنى لدى آخرين، وتبقى فئة قليلة تصوم وتجوع وتصلي وتخشع، دون أن تتقدم في إنسانيتها خطوة للأمام.