السيدة الجليلة و"فك كربة"

 

خليفة بن عبيد المشايخي

khalifaalmashayiki@gmail.com

 

يقول الشاعر عبدالرحمن العشماوي "ما قيمة النَّاس إلا في مبادئهم لا المال يبقى ولا الألقاب والرتب"، وهو مُحق في قوله أليس كذلك، فعندما يتعاظم الخطب وتكبر أهوال المعاناة ويزداد حجم المرارة والأسى والأسف، ويتعوذ الرجال من الهم والحزن والقهر وغلبة الدين، وتسجد جباههم حبلى بالحزن، وثكالى الغوث خاشعة متمرغة بأديم الأرض وسكينة التراب وروحانيات المكان، تسكب عليه للخالق جلَّ في علاه ماء الوجه، تناجي من تواضع لعظمته كل شيء، وذلَّ لعزته كل شيء، مقيل العثرات وغافر الزلات، راحم المساكين وأرحم الراحمين، ومولى المتقين، وولي المُهتدين.

الذي لا يقي الشر ولا يصرف السوء إلا هو، بأن يتلطف في أقدارها، ويعجل في أن يهبها أرزاقها، فتشرع تلك الأنفس مرات أخرى وهي ملأى كرب وثقل وغمة وضر، وتارة أخرى يغشاها أذى ووجع وشدة وبلاء، متأملة وطامعة وراجية، منه وحده البارئ عزَّ وجلَّ، الغيث والنجاة والستر والعفو، تدعوه وتبتهل، ترجوه وتتضرع، لتكون عقب ذلك تلك الدعوات متجسدة واقعاً على الأرض "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ.

وحينما يكون القرب من اليأس من روح الله ولا يكون ذلك للمؤمن، تقبل السماء علينا بالبشارات، وتنعم نفس الإنسان الضعيفة بالاستجابة لدعواتها، وذلك أن يقيض الله جلَّ جلاله لها من البشر ما يسعدها ويفرج همها وينفس كربها، أخذت على عاتقها حب الناس وإسعادهم، وعن الهوان والذل إبعادهم.

كحال السيدة الجليلة حرم جلالة السُّلطان- حفظها الله ورعاها- حينما بادرت مؤخرا ومشكورة في هذه الأيام المباركة، بفك كربة عدد من المساجين الذين سجنوا بسبب الديون والمطالبات المالية.

إنَّ الخطوة المباركة التي قامت بها السيدة الجليلة حفظها الله تعالى، إنما هو فعل يعكس نوازع الخير بها، ويدعو إلى إدامة الخير والتعاون والتضامن والتآزر على أرض عمان قاطبة، خاصة وأن مبادرة شخصها الكريم، جاءت في هذا الشهر الفضيل، لكي ينعم السجناء بقضاء الشهر الفضيل وصيامه ومن ثم تمتعهم بعيد الفطر مع أسرهم وذويهم.

ولا شك أنه ليس بغريب على حرم جلالة السُّلطان هذه المبادرات الكريمة الطيبة، فقد سبقتها مكارم عديدة شهد لها القاصي والداني، فقضاء حوائج الناس والمعسرين والضعفاء والمساكين منهم، ومن أثقلته الديون وعجز عن وفائها، إنما هو من أفضل الأعمال وأنبلها، والتيسير على الناس وكشف ضرهم، والوقوف معهم في محنهم وملماتهم، وإظهارهم من الزلات، وانتشالهم من العثرات، وإعانتهم بالحال والمال عدت مرات، إنما هو من شيمة الكرماء، فما خلقت الشدائد إلا لتظهر معادن الناس.

فكل الشكر والتقدير للسيدة الجليلة حرم جلالته على المبادرة السخية بفك كربة إخواننا وزملائنا وأصحابنا من أبناء المجتمع العماني المتحاب، الذين كانوا سجناء الديون والمطالبات المالية، ولنا رجاء أن تكون هناك فيما تبقى من هذا الشهر، هبة مجتمعية لإخراج كل السجناء العمانيين المطالبين بمبالغ مالية، لأن هناك لا زال عدد كبير منهم في السجون لم تشمله المبادرة.

إنَّ ما قامت به السيدة الجليلة وما قدمته في ميزان حسناتها بإذن الله تعالى، وهو عمل عظيم جبَّار وخطوة في المسار الصحيح، لإعطاء من شملتهم المبادرة والمكرمة فرصةً لتجاوز أزماتهم، ولتصحيح أوضاعهم، ولا شك أنها ستجعل منهم أقوياء لاستكمال الطريق المضيء، وليعودوا من جديد ومن خلاله وعبره، إلى تأسيس وبناء حياة جديدة لهم، تساندهم في خوض مرحلة جديدةٍ من مشوار حياتهم.

وهذا النوع من المبادرات المجتمعية، يقوي من ترابط المجتمع وتآزره، ويدعو إلى النظر إلى الغير برحمة وشفقة ممن تعسرت أحوالهم، وتغيرت أوضاعهم، ما استدعى الزج بهم في السجون، وإبقاءهم فيها لفترات طويلة، منفذين أكثر من حكم مدني يتعلق بمطالبتهم بدفع الديون، والالتزامات المالية التي تشكلت عليهم، ولنتذكر أنه من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم، فكيف بالذي لا يهتم بأمر العمانيين وهو عماني، ماذا نطلق عليه ونقول عنه.

إن ما قامت به السيدة الجليلة، نأمل أن تتبعه خطوات مماثلة من المقتدرين، أفرادا كانوا أو جماعات أو مؤسسات خيرية وجهات خاصة مختلفة، رائدنا من ذلك أن لا يبقى في هذه الأيام أي سجين مطالب بمبالغ مالية، خاصة في هذا الشهر الفضيل، وفي هذه الأيام المباركة منه، وذلك كالتي جاءت أيضًا من صاحب السمو السيد بلعرب بن هيثم وفقه الله تعالى وحفظه، وكالتي جاءت أيضاً من بنك مسقط وعدد من الخيرين والمحسنين.

إن عُمان لتمضي في تشكل جديد يقوده مولاي جلالة السلطان- حفظه الله ورعاه- لتتطلع إلى أن القادم سيكون بخير بإذن الله تعالى، وجلالته أخذ على عاتقه منذ اليوم الأول له، استكمال مسيرة السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- بجعل عُمان وأهلها نصب عينيه ومحط اهتمامه ورعايته ومتابعته.

تغمد الله السلطان قابوس بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته معلمنا الأول، وحفظ الله جلالة السلطان هيثم المفدى وحرمه السيدة الجليلة وأبناءهم، ووفقهم لما فيه مصلحة البلاد والعباد.

تعليق عبر الفيس بوك