عاصفة محملة بالشلل

 

عبدالله الفارسي

منذ 3 سنوات وربما أكثر يقتحمني شعور بالتبلد، يغزوني في مواسم مُعينة وفي أجواء ومناخات متكررة كعواصف رملية عاتية. أحيانًا يطول هذا الشعور فيجثم على صدري وعقلي زمنًا طويلًا ومملًا أخاله أبديًا، ونادرًا ما يقصر هذا الشعور القاتم ويتلاشى بسرعة عجيية.

حاليًا أنا مصاب بهذا النوبة الحادة من الشلل، إنني غارق في هذا الشعور التبلدي العنيف.

يخيم على قلبي شعور عام بالتبلد الكامل، شعور مغبر يحقنني ببرودة الحماس للحياة، يجعلني لا أرغب فيها مكتفيا بما أخذته منها غير متطلع ولا شغوف بما سيأتي منها. كنت قبل سنوات اتطلع إلى أشياء كثيرة، أشياء مزركشة وجميلة. كنت راغبًا في الاستمرار واللهث إلى تحقيق غايات معينة والقبض على أشياء معنوية ومادية عديدة. كنت بانيا أحلاما طويلة، ناسجا آمالا عريضة. حاليًا اختفت كل تلك الرغبات وانطفأت كل تلك الأحلام، وجفت كل الآبار والأفلاج والعيون. وكأن ريحًا عاتية كنستها من صدري واقتلعتها من روحي.

حاليًا لا أملك تلك الرغبة الحارقة الجارفة في الحياة ولا احتفظ بذلك الشعور الصاخب نحوها. لا أسعى لتلك الأحلام ولا أشتهي تلك الأماني. لا أعرف يقينا ما الذي حدث معي بالضبط، ولا أعلم ما الذي انطفأ في داخلي فأغرقني في العتمة وألقاني في هذا الظلام. ورغم بركة هذه الأيام وإيمانياتها المشعة إلا أنني لا أشعر بالنور، ولا أرى الضياء ولا أشعر بوهج الحياة ودغدغاتها وقشعريرتها الندية.

لا أعرف أي خلية من خلايا دماغي أصابها التلف، لا أعرف أي جزء من جمجمتي ضربه العطب؟ هل وصلت مبكرا جدا إلى مرحلة الاكتفاء الروحي من الحياة وما فيها؟ أم هو مجرد تبلد نفسي موسمي وصدود عاطفي صيفي عن مباهج الحياة؟ أم هي نقطة النهاية التي يصل إليها العقل اللاهث وتعانقها الروح المنهكة؟

كل الذي أشعر به الآن في هذه اللحظة هو الانطفاء الكلي من الرغبة في التحرك والمضي قدما إلى الإمام، ولا أملك أية رغبة في النهوض والقفز والطيران.

انهض من نومي لأصلي ولولا وخزة الصلاة لما نهضت..  انهض صباحا بدافع العمل.. ولولا فريضة العمل لما نهضت.. ادخل المطبخ بدافع الجوع.. ولولا غريزة الجوع لما أكلت.

لقد فقدت كل الأفعال التي يُجِلُها الأمل، لقد انطفأت كل الشموع التي تغمر الروح بالدافعية والشغف والانطلاق. هذا طبعًا ليس تشاؤما.. لا إنه حالة نفسية غريبة مبهمة. إنها حالة لها رائحة التشاؤم ونكهة اليأس وملمس الإحباط وملامح الإنطفاء. إنها حالة موسمية جافة حارقة مدمرة، إنها موسم انتشار الجراد في حقولي والذي يلتهم كل أغصاني وأزهاري وأعشابي، فيحيل أرضي إلى أرض سبخة وبقعة يباب.

هل أوضاع العالم وتعاساته تساهم في تأجيح هذا الجفاف في صدري وإشعاله؟ هل أحوال اليمن الحبيب والعراق العزيز وسوريا العظيمة وليبيا العزيزة وفلسطين الشريفة لها دور في إغراقي بهذا التبلد وتغرق روحي بهذا الانحسار والجفاف واليبس؟ هل كورونا واغتيالاته له سهم في هذه الموجة البائسة التي تعصف بالفؤاد وتقتلع الحياة من صدري؟

لا أدري لماذا يقتحمني تفكير دائم بالهروب والاختفاء وأحيانا يغزوني شغف إلى النهاية والانتهاء؟ لماذا أشعر دائما بالاكتفاء والشبع من الحياة. الاكتفاء من العيش.. الاكتفاء من الوقوف! هل شبعت حتى التخمة من الحياة ليراودني هذا الشعور ويقتحمني في كل ليلة؟

أحيانًا أسأل نفسي: ما الجدوى من حياتي؟ هل هناك شيء جميل ينتظرني؟ كم سنة سأعيش بعد الخمسين هذه التي أترنح فيها منذ أربع سنوات؟ هل هناك جمال يختبئ في مستقبلي ويندس بين ثنايا أيامي القادمة؟ هل هناك أيام سعيدة بهيجة تقف في المحطة البعيدة القادمة تنتظرني وترقب وصولي؟ هل هناك سعادة قادمة؟ هل هناك فرحة مختبئة؟ هل هناك متعة منتظرة؟ وأي نوع من السعادة هذه التي تنتظرني في المحطة البعيدة القادمة؟ ما شكلها؟ ما طعمها؟ كيف هي رائحتها ونكهتها؟ وهل روحي قادرة على عناقها وامتصاصها؟ هل جهازي العصبي جاهز لاستيعابها وهضمها وتحويلها إلى ضحكات ورقصات ومرح وابتهاجات؟ لماذا أشعر بأن هذه الحياة كذبة كبيرة سمجة؟ لماذا أعتقد جازما بأن هذه الحياة كذبة سخيفة بائسة؟ متى سأتحرر منها؟ متى ستظهر الحقيقة وتتضح الصورة؟

لماذا أشعر أن كل الأيام متشابهة؟ نفس الأصوات نفس الروائح نفس الأنفاس ونفس الأكاذيب ونفس السخافات تتكرر كل يوم؟ إنها حلقة مفرغة خانقة من الأكاذيب والتفاهات والسخف اليومي الطازج يتكرر أمامي يوميا.

هل خلقت لأعيش هذه الكذبة العظيمة ببطء؟ هل خلقت لتقتلني هذه الكذبة ببطء وتمهل وهدوء؟ هل وجدت لأعيش هذه الكذبة واتجرع تفاهاتها جرعة جرعة؟ هل في الموت نهاية سعيدة مريحة؟ لماذا أحيانا أحسد الأموات على موتهم؟ لماذا يرحل الطيبون بسرعة كبيرة؟ لماذا يختفي الرائعون قبل أن نستمتع بروعتهم وجمالهم؟ ولماذا يبقى الشياطين والأبالسة يجثمون فوق صدورنا دهورا طويلة؟

آهٍ.. يا لها من ذاكرة مُؤلمة تؤلم صدري وتمزق نياط قلبي. كم تمنيت أن أستيقظ بدون ذاكرة، وكم تمنيت أن أستيقظ وأنا ممسوح الذاكرة، لا أعرف شيئا عن الحياة، ولا أعرف الوجوه ولا أميز العيون والسحنات والأشخاص. كم تمنيت أن أعيش فاقدا الوعي، هذا الوعي اللعين الذي يجلدني، هذا الوعي المتكبر المتغطرس الذي يقتحم صدري ويعبئ روحي بالسواد والعتمة.

روحي المخنوقة المتدلية على مشنقة الحياة، إنها تتنفس بصعوبة..إنها تجدف ضد تيار عنيف.. إنها تتالم وكأنها تحاول الخروج والهروب والانعتاق والتفلت من عقالها.

لا أشعر بأي رغبة للمضي والمشي والاستمرار.. إنني أجر نفسي جرًا لأنهض وأتحرك، لكنني لا أستطيع أن أموت. لا أستطيع أن أقتحم الموت.. لست شجاعا وباسلا بما يكفي لاقتحام أسوار الموت الحادة الشائكة.

ورغم كراهيتي الحياة لكني لا أملك ملغم واحدا من الشجاعة للتوجه إلى الموت واقتحامه. ومهما كانت مشاعرنا غاضبة ساخطة نحو الحياة يظل الموت مرعبا ومفزعا ولا ممكنا.

لذلك.. أنا مضطر أن أعيش دون دفاعية دون رغبة دون شهية..أنا مضطر أن آكل دون شهية.. وأن أضحك دون شهية وأن أعيش دون شهية وأن أكمل الطريق دون شهية.. فأنا واحد من مليارات البشر الذي عاشوا ويعيشون الحياة دون شهية.

لكن يظل هناك سؤال يقرع جمجمتي الصلبة آناء الليل وأطراف النهار.. سؤال مزعج ملح ومثير للدهشة: هل هناك شهية قادمة ستفتح شهيتي للحياة؟ هل هناك سعادة قادمة ستلقي بذورها في تربة القلب لتنبت فرحا وبهجة وضحكا وسرورا في مواسم المطر والغيث والهطول؟

لستُ أدري!

لكني مازلت احتفظ بتفاؤل ضئيل خافت وخجول بأن مواسم الجفاف لا تدوم إلى الأبد، وأن السحب الكثيفة لا يمكنها أن تحبس المطر!