عباس العقاد وطه حسين..الصديقان اللدودان

 

عبد الله العليان

عاش عباس محمود العقاد والدكتور طه حسين، في فترة زاهية وراقية جرى فيها حراك أدبي وفكري، في ظل حرية واسعة في الإعلام المرئي والمقروء والمسموع، وخاصة الصحافة التي كانت الأكثر تأثيرًا ونشاطًا في هذا الحراك، والتي أغلبها مملوكة ملكية خاصة؛ سواء كانت مملوكة للأحزاب السياسية، في فترة المملكة المصرية أو كانت صحافة مستقلة للأفراد دون انتماء سياسي لأصحابها، وهذا تمَّ قبل تأميم الصحافة المصرية وأصبحت مملوكة للدولة بعد التطبيقات الاشتراكية عام 1961، بعد ثورة يوليو 1952.

في الأسبوع المنصرم تحدثنا عن علاقة العقاد ببعض الأدباء والمفكرين، وما جرى بينهما من سجالات أدبية وفكرية، ومن هؤلاء أمير الشعراء أحمد شوقي، والكاتب والأديب مصطفى صادق الرافعي. والعلاقة بين المفكرين الكبيرين، اتسمت بالوفاق والمتانة، لكن أحيانًا بالاختلاف، وكلها تتعلق بالنقد الفكري والأدبي، فأحيانًا عندما يُصدر د. طه حسين كتابًا، نرى عباس العقاد، يكتب ناقدًا لبعض ما طُرح من أفكار، وإذا أصدر عباس العقاد كتابًا أدبيًا أو فكريًا، كتب طه حسين ناقدًا، وهذا المساجلات لا تجري دائمًا، وإنما حسب القضايا المطرحة التي يراها كلاهما تستحق النقاش.

وأحيانًا الخلاف بينهما يتم عن طريق بعض الكُتّاب من خلال محاولة نقل نميمة ثقافية أو أدبية، ونقلها بينهما لإثارة  الضغينة، حتى يتم الحوار والسجال عبر الصحافة أو عن طريق اللقاءات الشخصية. ويذكر الكاتب الصحفي أنيس منصور في بعض كتاباته عما جرى بين الأديبين  الكبيرين، فيقول: حضرت د. طه حسين في بعض محاضراته الأدبية في جامعة القاهرة، وبعد خروجه التقيت معه، فسلمت عليه، وكان يعرف عني أنني من جلساء عبَّاس العقاد ومن الحضور لندوته الأسبوعية في بيته، فسألني طه حسين- بحسب أنيس منصور- ماذا أعجبك في عباس العقاد؟ إنه لم يحصل إلا على الشهادة الإبتدائية، فبرر أنيس منصور أن العقاد قارئ نهم وثقف نفسه بنفسه، وأصبح أحد العمالقة في الفكر والأدب،  فوافقني على ما قلت. ويضيف منصور في هذه القصة، أنه أخبر العقاد ما قاله د. طه حسين عن قصة شهادته الإبتدائية، فردَّ العقاد على ما رواه أنيس منصور بقوله: إن حصول طه حسين على الدكتوراه من السوربون بباريس، كان شفقة عليه لكونه أعمى!

صحيح أن د. طه حسين قليل النقد لكتابات عباس العقاد، بينما العقاد هو الأكثر شدة في نقده لطه حسين في بعض ما يكتبه، لكن ظل الخلاف في الحدود الراقية، استفاد منه المتابعون لهما في تلك الفترة الخصبة من حياة مصر الأدبية والثقافية.

ويرى الكاتب الموسوعي أنور الجندي في كتابه "المعارك الأدبية في مصر 1914- 1939" أن طه حسين كان "يخشى قلم العقاد، فلم يعرض له إلا لمامًا وفي حذر شديد، وعندما انضم طه حسين إلى (حزب) الوفد كان العقاد أكبر من يخشاه". لكن هذا من طبيعة طه حسين الذاتية؛ إذ إنه لا يدخل كثيرًا في السجالات الفكرية، إلا في الحدود التي تتطلب ردًا أو توضيحًا".

ومن المعارك الفكرية والأدبية بين العقاد وطه حسين، ما حدث بعد صدور كتاب عباس العقاد "رجعة أبي العلاء المعري"؛ حيث كتب طه حسين مقالاً في مجلة الثقافة المصرية ناقدا لبعض ما طُرح في الكتاب، ومما قاله طه حسين: "جرى على لسان التلميذ وعلى لسان الشيخ كلام أهمل فيه النحو بعض الإهمال، وما أظن أبا العلاء كان ينصب أو يجر؛ حيث يجب الرفع، وما أظن أنه كان يقبل من تلميذه أن يضع "من" مكان "ما" وما أشك في أن هذا من خطأ المطبعة ولكنه خليق أن ينتبه إليه"، فرد عباس العقاد على ما كتبه طه حسين على هذه الفقرة من النقد، فيقول: "رجعنا إلى الصفحة (891)، التي أشار إليها الدكتور (طه حسين) فلم نجد فيها منصوبًا يجب رفعه وإنما وجدنا المعري يسأل: "والمساكين والمستضعفين"؟ دون أن يسبق الكلمتين عامل مذكور، والقاعدة النحوية- كما يقول العقاد- في هذه الحالة أن يرجع إلى التقدير كقول الشاعر في البيت الذي يعرفه النحاة:

أخاك أخاك إن من لا أخا له // كساع إلى الهيجاء بغير سلاح

فالشاعر هنا لم يقل "أخوك أخوك" لأن الكلمة واقعة في الابتداء، ولكنه قال أخاك أخاك لأن التقدير "أذكر أخاك" أو "استعن أخاك" أو ما شابه هذه التقديرات".

ويذكر الكاتب سعيد الشحات، أن سكرتير طه حسين د. محمد  الدسوقي في كتابه "أيام مع طه حسين"، أنه في إحدى المرات عُقدت ندوة تلفزيونية أعدها الكاتب أنيس منصور، وحضرها عدد من الكتاب والأدباء، منهم يوسف السباعي، وثروت أباظة، ونجيب محفوظ، ومحمود أمين العالم، ويوسف غراب، وكامل زهيري، وعبد الرحمن الشرقاوي، وأثار المشاركون فى الندوة مع عميد الأدب العربي قضايا أدبية مختلفة، بعضها يتصل بأدب الشيوخ والشباب، وكان منها ما أثاره أنيس منصور عن العقاد ومنهجه في الكتابة عن طائفة من الأعلام القدامى والمحدثين، وبخاصة أعلام الإسلام في الصدر الأول، وقال العميد فيما قاله عن العقاد: "إنه يسرف حين يدرس شخصية من الشخصيات في القضايا النفسية والفلسفية، ومن ثم يكتنف الغموض ما يكتبه، وأنه (أي طه حسين) لم يفهم "عبقرية عمر". ويتذكر الدسوقي، أن العميد أضاف: "يبدو أنى أخطأت حين قلت بأني لم أفهم "عبقرية عمر"، فهذا عيب فيّ وليس عيبًا في العقاد، وعلى كل حال فتقرير هذا الكتاب غير سديد، فمستواه فوق مستوى التلاميذ حتى بعض المدرسين".

كما حصل خلاف فكري بين طه حسين وعباس العقاد، وإن كان خلافًا- كما يقول محمد بكري يسيرًا- كعادة الخلاف الذي يدور: "بين المثقفين حول حظ الخيال في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري (973- 1057م). إذ فهم طه حسين أن العقاد يحكم على الفيلسوف المعري بأنَّه قليل الخيال في كتاب "رسالة الغفران". واستفز حكم العقاد هذا طه حسين، فصاحب "تجديد ذكرى أبي العلاء" و"مع أبي العلاء في سجنه" و"صوت أبي العلاء" تربطه برهين المحبسين روابط خاصة متميزة، فالمعري هو أحب الشخصيات إلى فكره وقلبه، وتَشَبَّهَ به ووجد نفسه في حياته كأن المعري مرآة انعكست عليها أفكاره وشخصه؛ حيث إن المعري كطه حسين أعمى، فقد بصره منذ صغره، ثم هو شاعر وفيلسوف".

وقد ظلت علاقة عباس العقاد وطه حسين بين المد والجزر، متأرجحة، وفق الظروف والنقاشات التي تدور في الساحة الفكرية، وإن كانت العلاقة الإنسانية بينهما قوية، وعندما جاءت أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، نتيجة رؤيته في تطبيق الشك الديكارتي على رؤيته آنذاك، حاول العقاد أن يدافع عن طه حسين لتخفيف الحملة الكبيرة عليه، التي جاءت من الأزهر الشريف، ووصلت حتى من الحزب الذي ينتمي إليه وهو حزب الوفد (وهذه سيكون لنا حديث آخر حولها). ويوم توفي عباس العقاد في عام 1964 رثاه طه حسين بكلمة رائعة، أعطاه حقه ومكانته الأدبية والفكرية، فيقول طه في هذا الرثاء: "ما أشد ما كان بيني وبينك من خصام في السياسة أحيانًا وفي الأدب أحيانًا أخرى، وما أحلى ما كان بينك وبيني على ذلك من مودة وإخاء ووفاء.. أنت أيها الأخ الكريم والصديق الحميم ملأت الدنيا حقًا وشغلت الناس حقًا وستشغلهم بعد وفاتك أكثر مما شغلتهم في حياتك".. وللحديث بقية.