حاتم الطائي
◄ وسائل التواصل الاجتماعي جعلت العالم يعيش في "غرفة واحدة"
◄ ممارسة حرية الرأي والتعبير يلزمها تقيد بالأخلاق والموضوعية التامة
◄ التكنولوجيا محايدة.. وعلينا تعظيم الاستفادة منها خاصة في مجال التعليم
التطورات التي يشهدها قطاع تقنية المعلومات والاتصالات بلغت مدى باتت معه التكنولوجيا سلاحًا ذا حدين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وذلك ليس من باب المُبالغة أو تكرار تحذيرات يعلمها القاصي والداني؛ بل تأكيد على حجم الفائدة المتحققة من هذه التكنولوجيات وأيضًا الأخطار الناجمة عنها.
والأحداث اليومية في كل أنحاء العالم تُثبت لنا- على سبيل المثال- مدى التأثير المُباشر وغير المباشر لوسائل التواصل الاجتماعي، وهذا موضوع حديثنا في هذا المقال؛ بل إنَّ هذه الوسائل أو ما يُعرف بـ"السوشال ميديا" تملك القدرة على توثيق وحفظ كل حرف وكلمة وصورة ومقطع فيديو في ذاكرة عملاقة لا مُتناهية. وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي البشر على التواصل، فلم تعد مقولة "العالم قرية صغيرة" صالحة للاستخدام الآن؛ إذ أصبحنا نعيش جميعًا في غرفة واحدة؛ بل ربما نجلس جميعًا على ذات الطاولة. غير أنَّ هذا التواصل فتح الباب على مصراعيه أمام الجميع للحديث بلا حدود وبلا رقيب ولا حسيب، فأدلى الجميع بدلوه في مختلف القضايا، فتحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة رئيسية للرأي العام حول العالم، ومنبرًا لكل صوت لا يجد من يسمعه على أرض الواقع، وساعد في ذلك التقنيات الذكية للغاية التي طورتها الشركات المالكة لهذه المنصات، فباتت خوارزميات الذكاء الاصطناعي تتحكم فيما نقول وما نبحث عنه وحتى ما لا نريد أن نراه ويصلنا! ولذلك فقد أثرت وسائل التواصل الاجتماعي تأثيرًا إيجابيًا للغاية في مختلف المجتمعات، لكنها على حد سواء تسببت في فوضى معلوماتية واختلالات سياسية وأضرت كثيرًا بشعوب ودول وحتى المؤسسات والأفراد.
وهذا ما يدفعنا إلى تسليط الضوء على قضية حرية الرأي والتعبير في ظل هذا التطور الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي، وما إذا كانت هذه الوسائل قد عادت بالنفع أم بالضرر على هذه الحريات. والحق يُقال إنَّ هذه الوسائل مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب أتاحت للجميع حرية التعبير عن رأيه بالطريقة التي يريدها، لكنها في الوقت نفسه، سمحت للكثيرين بنشر الشائعات والأكاذيب والأخبار المُزيّفة، بل والصور ومقاطع الفيديو غير الحقيقية، الأمر الذي فاقم حالة السيولة المعلوماتية في الكثير من القضايا. ووسائل التواصل الاجتماعي كذلك هدمت ما يُعرف بـ"سقف الحرية"؛ إذ بات الفضاء السيبراني هو السقف الافتراضي، أي اللانهاية!
تلك الحالة السلبية والحرية غير المسؤولة أفرزت مُمارسات متطرفة وشعبوية، وسمحت لقادة وزعماء دول باستغلالها في حشد الجماهير لارتكاب أعمال عنف ضد مؤسسات الدولة، ولنا في نموذج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خير مثال، فلم يكتف ترامب بتعمد نشر الأكاذيب عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليحصد عن جدارة لقب "الرئيس الأكثر كذبًا"؛ بل حرض على العنف والدم واقتحام المؤسسات الحكومية وإرهاب المجتمع.
وإذا ما نظرنا إلى مجتمعاتنا العربية، وحتى هنا في سلطنة عُمان، نجد الإشكاليات ذاتها مُتحققة، فما سُمي بـ"الربيع العربي" استمد طاقته الرئيسية من وسائل التواصل الاجتماعي، ومارست النخب السياسية والاجتماعية نفوذها وسطوتها عبر حساباتها على هذه الوسائل، ومن المؤسف القول إنَّ هذه الوسائل ومن يستخدمونها نجحوا في تحويلها إلى منصات احتكارية للرأي العام، فما تقول به السوشال ميديا مُصدّق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإذا نطق "ناشط" على حسابه بأي كلام، صار حديثه محل صدقٍ مُطلق، وأي محاولة لنفي صحة ما يقول فإنَّ مصيرها الفشل على أيدي متابعين يطلقون سهام كلماتهم المسمومة ويُشهرون سيوف الاغتيال المعنوي ليطعنوا كل من حاول تصحيح الأمر بخنجر ذي نصل حادٍ. ومن المؤسف أنَّ الكثير من مؤسساتنا الرسمية تخشى الصوت العالي القادم من وسائل التواصل الاجتماعي، حتى ولو لم يكن يمثل الرأي العام، وبتنا نجد أشخاصًا يمارسون أقصى أنواع الهجوم غير الموضوعي على المؤسسات وحتى الأفراد فقط لأنهم خالفوا التيار العام الجارف. ولعل من أسوأ ما قد يراه المرء على هذه الوسائل، محاولة البعض فرض الوصاية والرأي في مسألة من المسائل بصورة مُتعجرفة تنم عن جهل أو حتى عن سوء تقدير، فيخوض الجميع في تُرَّهات لا نهاية لها، فيسقطون في قاع النقاشات العقيمة، وينزلقون إلى مسالك الجاهلين ظانين بذلك أنهم أصحاب رأي سديد وفكر ثاقب!
حقيقة الأمر أنَّ التكنولوجيا مُحايدة، فقد ابتكرها أصحابها- ويواصلون تطويرها- لخدمة الإنسانية، بيد أنَّ سوء استخدامها يتسبب في مشكلات وأضرار قد لا ينجو منها أي شعب من الشعوب، وربما تكتوي بنيرانها الدول، أو حتى تسقط الأنظمة بسببها! ومن هنا ينبغي العمل على تثقيف الناشئة ومختلف المستخدمين بالقواعد والأسس الرئيسية لاستخدام التكنولوجيا وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ لابُد من إدخال قيم وأسس التربية الرقمية في مختلف مراحل التعليم، فالأمر لم يعد يحتمل أي انتظار، وهنا لا أتحدثُ عن قضايا سياسية أو اجتماعية؛ بل أيضًا عن قضايا أخلاقية؛ فالتنمُّر الإلكتروني وتزييف الصور والمقاطع المرئية والابتزاز الإلكتروني وحتى هجمات القرصنة على الهواتف والحواسيب، كلها تستدعي بصورة عاجلة تعزيز مفاهيم التربية الرقمية وأهمية احترام الآخر وعدم فرض وجهة النظر أو السخرية بما ينال من كرامة الإنسان أو حقه في التعبير عن وجهة نظره.
وكم نحن بحاجة ماسّة إلى تربية رقمية ضمن منهجية وقيم راقية وضوابط تهدف إلى الارتقاء والسُّمو بالممارسات في هذا الفضاء الإلكتروني اللامحدود، وإرساء القيم النبيلة في نفوس كل مستخدميه.
وختامًا.. إنَّ النِعم التي أوجدتها التكنولوجيا جديرة بالحفاظ عليها، والعمل على الاستفادة منها فيما يخدم الإنسانية ويُعزز من قيم الحق والخير والجمال، وبما يساعدنا على التقدم وإحراز الازدهار الذي ننشده جميعًا، فقد نجحت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي في تطوّر التعليم ومسيرة التعلُّم في بلادنا وغيرها من دول العالم، خاصة تطبيق "يوتيوب" الذي وفّر ملايين الساعات من التعلم المجاني والسهل والمُدعم بالبيانات والإحصاءات والمعارف الحقيقة والموثوقة. ولنعلم أنَّ إساءة استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي ستكون وبالًا علينا وسيسبقنا غيرنا ويتفوق علينا، لا لشيء إلا لأنَّه وظّف كل ما حوله من تقنيات فيما يحقق رفاهية الإنسان وتقدمه.