مدرين المكتومية
ربما لن يأتي على العالم مُؤلف مُوسيقي بارع مثل لودفيج فان بيتهوفن وهو أحد أشهر المؤلفين الموسيقيين في تاريخ الموسيقى، إن لم يكن الأشهر، ومن أهم أعماله سوناتا "ضوء القمر"، التي مثلت مرحلة للتحول والتطور ما بين الكلاسيكية إلى الرومانسية، وقد غير خلالها تاريخ الموسيقى، وقد أهدى بيتهوفن السوناتا للكونتيسا جيوليتا جويتشاردي، التي درست الموسيقى على يد بيتهوفن والتي ارتبط بها بقصة حب لكن عائلتها الأروستقراطية رفضت تلك العلاقة بشدة كون بيتهوفن موسيقي لا يمكنه أن يرتبط بفتاة من طبقة أروستقراطية حتى وإن كانت علاقة حب.
أطلق عليها "الحزن النبيل" ولكن يمكن أن تكون "الحزن الأنيق بكل تجلياته"، "الحزن الفاخر"، فهذه السوناتا تقدم أكثر من مزيج عاطفي قدمه بيتهوفن، هي المزيج بين الحزن والألم والدموع، وبين الواقعية وما بين الغضب والاضطراب والقلق، فهي الخروج عن المألوف والانتقال من مرحلة لأخرى بالفن.
الفن هو كل ما نحتاج إليه، هو ما يمكنه أن يعيد تشكيل الآخر ودواخلنا، هو المشاعر غير الظاهرة، هو الحديث عن الذات بكل ما تعيشه من تقلبات، هو الواقع الذي نهرب من الاعتراف به، هو السعادة والحزن في الوقت ذاته.
عندما تستمع لهذه السيمفونية ذات الطابع المتناقض تجد أنها رحلة تبدأ بالبدايات الأولى للحب، التي تتسم فيها الحياة بين أي عاشقين باللوعة والحرمان والخوف من المجهول، ومن ثم تأتي تلك المرحلة التي يفرضها الواقع بين القبول والرفض، الرغبة والحاجة، وأخيرا يأخذك البيانو عندما تستمع إليه لتلك اللحظة الحاسمة التي تستشيط فيها المشاعر وتلتهب ويبدأ الشخص فيها بالدخول في دوامة لا متناهية من الاضطراب، إنها رحلة من "الحزن الفاخر " الحزن الذي لا يشبه أي حزن، الحزن الذي تقدمه الموسيقى دون أن ينطق بها صاحبها أعمق وأقوى من أي شيء آخر.
رسالة الحزن التي يقدمها الفن هي مختلفة تمامًا عن أي رسالة، هي الحرب التي يخوضها الفنان والموسيقي بينه وبين نفسه والتي لا يصرح بها أبدا، ويبقى أن يفهم الآخر ما الذي يريد الفنان إيصاله من وراء سيمفونية، لوحة، نص، وغيرها من الفنون الأخرى.
وبالعودة "لضوء القمر" والتي أطلق عليها المؤلف الكبير هيكتور بيرليوز "البكائية" ويقال إن المقطوعة أخذت اسمها "سوناتا ضوء القمر" بسبب مقالة كتبها الناقد الموسيقي لودفيج ريلشتاب قال فيها: "إن الحركة الأولى من هذه السوناتا تُذكره بقارب ينساب في ضوء القمر فوق مياه بحيرة لوسرن في سويسرا".
إنَّ الفن حالة روحية لأي فنان مهما حاول إخفاء ذلك، إنها الأحاسيس التي لا يمكن لأي حرف إيصالها، هي مشاعر لا يمكنها أن تتحول لكلمات بسبب ثقلها وقوتها، فالكاتب عندما يكتب قصة بعينها، هو يود أن يقول كلمة لربما لكنه لا يملك وسيلة لتعبير عنها سوى أن يهدينا كتاب، والموسيقي عندما يود أن يعبر عن حزنه وسعادته، لا يمكنه سوى أن يبدع لنا سيمفونية عظيمة يتكهن حولها الفنانون، ويعبر عنها النقاد بطريقتهم المختلفة، ويصيغون الحالة الشعورية التي يعيشها الكاتب على أهوائهم، كذلك الحال مع الرسام الذي قد ترى الفرق معه بين لوحة وأخرى، وتظل لوحة واحدة في كل المعرض غير قابلة للبيع والمساومة لا لشيء إلا لأنه رسمها وفق حالة شعورية معينة.
دعونا نلخص قليلاً مفاهيم الفن البسيط من خلال ضوء القمر، أو لوحة الموناليزا ولربما من خلال رواية العطر، جميعها مشاريع فنية ولكننا سنطل نقرأ بها ونستمع إليها ونمعن النظر في بعضها كوننا لا يمكن أن نصل ولو لصورة واحدة مما كان يود من ابتكرها إيصاله، إننا يمكن أن نقيس ونتحكم ونخمن كل شيء لكن لا يمكننا أن نحكم على حالة شعورية راودت أحدهم في لحظة بعينها، وفي مكان بعينه، وفي زمن لم نكن فيه.
ستظل سوناتا "ضوء القمر" رسالة بتهوفن للحب، رسالة الفن النبيل، الفن الذي لا يفصح عنه بل تجسده أصابعه على البيانو، إنها الرسالة التي تركها خلفه لتظل الشغل الشاغل للكثير من الفنانين الذين استوحوا منها فنونهم المختلفة، إنها الرحلة الشاقة التي تضاربت فيها مشاعره ولكنه لم يتنازل للحظة عن شعوره بأنه عمل فني جدير بالمشاركة، وإن الفنان هو الشخص الوحيد في العالم الذي لا يمكنه أن يمتلك مشاعره لنفسه، حتى مشاعره واضطراباته وصراعاته يجسدها على شكل فن ليتقاسمه مع الآخر، الذي بدوره يحاول اكتشاف ما عاشه ويعايشه أي فنان من ابتكاره "فن بعينه".