حياة قلم بفكر ثاقب

 

عبد الله العليان

في بداية اطلاعنا على الأعلام البارزين في الحياة الفكرية والثقافية العربية مع أواخر الستينات وبداية السبعينات، سمعنا وقرأنا عن العديد من الكتاب الذين أصبحوا ملء الأسماع في دنيا الفكر والثقافة والأدب.

ومن هؤلاء الكاتب والمفكر والكاتب الصحفي عباس محمود العقاد، فقد كنَّا نسمع عنه أنه لم يكمل دراسته النظامية، سوى المرحلة الإبتدائية، لكنه استطاع أن يتقدم صفوف الكتاب والباحثين والأكاديميين في عصره، من حيث عمق الطرح، وغزارة الإنتاج المتعدد، في كل المجالات الفكرية المختلفة، لكن حياته الفكرية، بدأت مع الأدب والشعر والنقد لعدة عقود، فكان له الكثير من الصولات والجولات والمعارك الأدبية والنقدية، مع جيله آنذاك الذي كان جيلاً انتمى لمدارس فكرية متعددة الرؤى الفكرية، فكان العقاد أحد أبرز هذه المدارس الأدبية والنقدية، ومعه الكثير من الأدباء والنقاد الذين أصبحوا من التلاميذ المنتمين لهذا المفكر والأديب والنقد.

وقد دخل العقاد في ذلك العصر، منذ النصف الأول من القرن الماضي والنصف الثاني منه، معارك أدبية وفكرية، مع د. محمد مندور، ومصطفى صادق الرافعي، ود. طه حسين وزكي مبارك، وأحمد شوقي، ومحمود أمين العالم، وزكي نجيب محمود، وغيرهم من أدباء ونقاد ذلك الجيل.

امتاز العقاد بقدرته العميقة على طرح الفكرة التي تجعل معارضيه، على احترامه وتقديره والانبهار بالقدرة الفائقة على سعة الاطلاع، لكل القضايا التي يناقشها مع أقرانه من الأدباء والنقاد، ويروي زكي نجيب محمود في كتابه "مع الشعراء"، عن معرفته بالعقاد وفكره وفلسفته في بداية اللقاء معه، وكان علاقته مع بداية عام 1964، فيقول: "كان العقاد عندئذ قد دنا من عامه الأربعين، يملأ دنيا الثقافة بحضوره، فلا تغفى عنه عين ولا تستطيع، ولا تصم من دونه أذن وهيهات لها، فسواء أقبل عليه القارئون أم أدبروا، أيده الكاتبون أم عارضوه، فهو هناك يملأ عليهم دنياهم بحضوره ملء العين ملء الأذن، ولقد كانت عشرينيات ذلك القرن في تاريخنا الفكري عشاراً من السنين، صخبت خلاله أرضنا بجلبة المعارك الفكرية الحادة العنيفة، وكنَّا نحن الطلاب عندئذ مشدودي الأبصار موزعي الأسماع بين أصوات القادة في تلك المعارك الدائرة".

وهذه الإشارة من شيخ الفلاسفة العرب، كيف كان العقاد في عصره، وقد ملأ الدين نقاشاً وحواراً وحتى جدالاً صاخبا مع الأدباء والنقاد في شتى القضايا الفكرية والأدبية، وهي بلا شك أسهمت في تحريك المياه الراكدة، فلا يتحقق الوعي، وتستثار الفكرة وتتعمق إلا بالنقاش الحي والحر، الذي يجعل الأفكار تتفتح وتتداول عبر الصحافة. ويستطرد زكي نجيب محمود في وصف أسلوب عباس العقاد وتعامله، فيقول: "كانت طريقته في التفكير وفي الكتابة هي نفسها طريقته في الحياة، اللهم إلا جانباً واحداً رأىته يتمثل فيه إنساناً ولا يتمثل كاتباً إلا بقدر ضئيل، وذلك هو جانب الفكاهة والمرح.. اقرأ العقاد تجد في كتابته الصلابة والمتانة والجد، وهكذا العقاد إنساناً: الصلابة في الخلق، ومتانة في بناء الشخصية وجد في تناول الأمور، أقرأه تجد أنفة وشموخاً وارتفاعاً عن الصغائر، وكذلك كان العقاد إنساناً: ترفع عن الرياء، فما رأيته مرة واحدة يتزلف إلى صاحب منصب أو جاه أو ثراء، أنه لا يمالئ قراءه، أنه يكتب لهم ما يجب أن يكتبه لا ما يحبون هم  أن يقرأوا".

ومن المعارك الأدبية التي جرت بين عباس العقاد وبعض الأدباء والشعراء والنقاد، المعركة الشهيرة مع أمير الشعراء في ذلك الوقت أحمد شوقي، وهو من ابرز الشعراء وأشهرهم مكانة وسمعة ومجداً، وتعد من أعنف المعارك، وقد يعتقد البعض أن نقد العقاد لأحمد شوقي حول مذهب شوقي في الشعر، أو بهدف الشهرة بحكم مكانة شوقي الشعرية وعلاقته وقربه من الساسة والحكام آنذاك، لكنّ الخلافَ بعيدٌ عن هذا التصور لدى البعض. والمتتبع لنقد العقد لشوقي- كما يقول عبد اللطيف شراره- ليس نقداً لهذه المدرسة الكلاسيكية الشعرية أو تلك، لكن نقده انصب على المديح الذي عُرف عنه شوقي لبعض عِلية القوم في ذلك، وجاء نقد العقاد كعادته عنيفاً وقوياً ويكره المجاملة في مثل هذه الأمور.

ومما قاله العقاد في أحمد شوقي: "إذا استطاع- أحمد شوقي- أن يقحم اسمه على الناس بالتهليل والتكبير والطبول والزمور في مناسبة وغير مناسبة وبحق وبغير حق، فقد تبوأ مقعد المجد وتسنم بقعة الخلود، وعفا بعد ذلك على الأوهام والضمائر، فسحقاً للمقدرة والإنصاف وبعدا للحقائق والظنون، وتباً للخجل والحياء، فإن المجد سلعة تقتني ولديه الثمن في الخزانة".

والمعروف عن أحمد شوقي أنه لا يرُد على ناقديه وهذا أسلوبه، وأحيانا بطرق مبهمة في الشعر، لكنه لم يرد على العقاد، حيث يعرف شدته القوية في النقد، وما حصل من العقاد من نقد، جعل بعض الشعراء المنتمين إلى مدرسة "أبولو" والتي ينتمي إليها أيضاً عباس العقاد، وتم الترتيب لهما للقاء والتصالح بينهما، وقام بهذا الدور الشاهر أحمد زكي أبو شادي مؤسس مدرسة أبولو، وتم اللقاء وعودة صفاء العلاقة.

ومن المعارك الأدبية الشهيرة أيضا المعركة الأدبية الفكرية التي جرت بين عباس العقاد، وبين الأديب والكاتب المدافع عن الفصحى مصطفى صادق الرافعي، وجرت على مجلة "المؤيد" المصرية عام 1914، والقصة بدأت كما يقول د.عامر العقاد (وهو ابن أخِ عباس العقاد) في كتابه "معارك العقاد الأدبية"، أن الخلاف الأدبي بدأ من العقاد، حين وجه نقداً في مسألة تقترب من الأدب الحسي لقد كان أخذ على الرافعي ـ في هذا المثال وكان عنوانه: "(فائدة من أفكوهة)، ويدور حول اضطراب القياس عند الرافعي حينما كتب عن جهاز النطق لدى الإنسان والحيوان، ويومها نفى العقاد في مقالته أن يكون نطق الكلب لبعض الألفاظ لأنها من حاجاته الطبيعية". لكن الرافعي- بحسب عامر العقاد- انتبه لهذه الملاحظة، فأشار في كتابه "تاريخ الآداب العربية"، في هامش الجزء الأول إلى ما يلي: "أما الحيوان المروض المأخوذ بالعناية والتعليم والتلقين فقد يقتبس جملة من حروف اللغة التي يعلم بها، وبذلك تأتي لبعض الألمانيين أن ينطق كلبه بألفاظ خالصة من اللغة الألمانية، ولكنها في الجملة من حاجات الكلب الطبيعية كالأكل والشرب فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضاً".

لكن الرافعي بطبيعته الناقدة لم يسكت على انتقادات العقاد، وعلى غيره، ومنهم طه حسين، خاصة بعد صدور كتابه "إعجاز القرآن"، فكتب العديد من المقالات في مجلة "العصور" التي كان يرأس تحريرها إسماعيل مظهر، تحولت إلى كتاب سماه "على السفود"، هاجم فيها العقاد هجوما شديداً، ورد العقاد عليه أيضًا بانتقادات عنيفة، لكن الرافعي رغم كل ما حصل بينهما، لا يتنكر للعقاد ومقدرته الفكرية والمعرفية والنقدية، فيقول عن العقاد مع اختلافه معه: "أما العقاد فأني أكرهه، وأحترمه، أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه.. وأحترمه لأنه أديب قد أستملك أداة الأدب، وباحث قد استكمل عدة البحث، قصر عمره وجهده على القراءة والكتابة.. فلا ينفك بين كتاب وقلم.. أسلوب العقاد أسلوب الأديب الحكيم.. تبرز فيه الفكرة الدقيقة (...)، فيجمع بقوة تفكيره ودقة تعبيره طرفي البلاغة.. والعقاد مخلص لفنه: فلا يخرج للناس ملا يرضاه.. فهو لذلك أبعد الأدباء عن استغلال شهرته واستخدام إمضائه".

وتعد معارك العقاد وحياته الفكرية الصاخبة في الحراك الأدبي والفكري في مصر في القرن الماضي، محط اهتمام المؤسسات الثقافية والفكرية والصحفية، لما لها جمهور واسع من النخبة المثقفة، أما معركته القوية التي تعتبر أم المعارك، فقد كانت مع صديقه اللدود الدكتور طه حسين، وهذه تحتاج أن نفرد لها مقالًا كاملًا.