الكرامة ليست في المسميات وحدها

 

د. عبدالله باحجاج

أتفقُ مع طرح المهندس صالح الشنفري الرئيس التنفيذي للشركة العُمانية للاستثمار الغذائي القابضة، على أن الحاجة تتطلب الاعتداد بكرامة المسميات، وهذه الكرامة تنتهكها مهن تعرضها وزارة العمل للباحثين بمُسميات مستفزة، ومثيرة للرأي العام، وقد بشرنا الشنفري بأن وزارة العمل تتفهم الآن لتغيير المسميات من منظور كرامتها، وضرب مثالًا لذلك، فبدلًا من وظيفة "حارس" يقترح تسميتها "مساعد تنفيذي".. إلخ، وربما يكون تغيير هذه المسميات مطلبًا ملحًا قبل سنتين؛ لأن مثل تلكم المسميات كانت طاردة وليست جاذبة، أما الآن، فإن ذهنية الباحث عن عمل في قمة الانفتاح لتقبل أي مهنة تحت ضغوط شاملة ومتعددة، وقلق متصاعد من المستقبل.

تصبح قضية تغيير المسميات تميل أكثر الآن لمصلحة الجهات الحكومية، والإخراج الشكلي لمسيرة وظائف من نوع حارس وسائق ونادل.. إلخ، قد أصبحت تتصدر فرص العمل التي تعرضها وزارة العمل للباحثين عن عمل، ولا أنفي ما للاعتداد  بكرامة المسميات من دوافع معنوية عند الباحثين عن عمل، مثل ما حدث لمفهوم  حراس البوابات التي تطورت إلى الأمن والسلامة، رغم أن طبيعة العمل ظلت قائمة، فقد أحدثت في النفسيات العزة والكبرياء، بعد ما كانت تكسر النفس.. إلخ.

هكذا سيكون شأن ما يطرحه المهندس الشنفري، فالنقلة ستكون معنوية، وسترفع الحرج عن عرض مثل هذه الوظائف عبر الصحف والتواصل الاجتماعي، أما دورها في الإقبال، فهي مسألة متجاوزة، فالتحولات والتبدلات القوية التي تشهدها البلاد منذ سنتين، قد صنعت ذهنية منفتحة عند جيل الشباب الباحثين عن عمل؛ إذ تقلصت الخيارات أمامهم، ودفعت بهم إلى استغلال المتاح لهم.

لكن، وهذا هو الأهم، أن تغيُّر المفاهيم أو المسميات لوحده لن يصنع الكرامة المنشودة في ظرفيتها الزمنية الراهنة، وستظهر كرامة الراتب عامة، وعند فئات هذه الوظائف خاصة، فأين مفهوم الكرامة من الحد الأدنى للراتب 325 ريالًا؟ ستجد هذه الفئات صعوبة بالغة في تحسين راتبها بصورة ملموسة سنويًا، وذلك لطبيعة هذه الوظائف، مما يعني أن عدم الاعتداد بكرامة الراتب، سينتج عنه فقدان كرامة المعيشة، فالحد الأدنى، لا يمكن أن يصنع الأمل في تحقيق حقوق أساسية لشباب هذه الوظائف.

لذلك، ينبغي أن يتقاطع الاعتداد بالكرامة من ثنائيته المتلازمة، وهي "الشكل والمحتوى"، وإلّا فسنكون أمام عملية تجميل للوجه فقط، وأرى أن هناك خطوات عاجلة ينبغي أن تصاحب كرامة المسميات حتى تنتج أثرها الوطني والإنساني معًا لهذه الفئات من الوظائف؛ وأبرز هذه الخطوات:

- الإسراع في إقامة صناديق الزواج للشباب في المحافظات، التي للأسف لم تر النور حتى الآن رغم صدور توجيهات سامية بشأنها.

- فتح إمكانية امتلاك شباب هذه الوظائف لشقق سكنية بأسعار مدعومة، وهذه الخطوة ستساعد في تغيير ثقافة السكن في البلاد؛ إذ سيكون خيار السكن في الشقق متاحًا وممكنًا بعكس خيار السكن في الفلل الذي تزداد صعوبته لتصل إلى الاستحالة عند عموم الباحثين عن عمل.

- منح شباب هذه الوظائف بطاقة امتياز تحتوي على مجموعة تسهيلات ملموسة كالحصول على قروض ميسرة جدًا، والشراء المدعوم للحاجيات الأساسية للمعيشة، إلخ.

- الإسراع في تبني نظام الجمعيات التعاونية التي أثبتت نجاحها في منطقة الخليج، بحيث تؤمن الحاجة الاستهلاكية للمستهلكين وبالأسعار المناسبة؛ سواء في الأيام الاعتيادية والأزمات معًا، ولنا في أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا نموذجًا، فقد ضُخت أموال إضافية حتى تضمن السعر المناسب للمستهلكين.

إنَّ كرامة المسميات بعد تخفيض الحد الأدنى للأجور، وكذلك في ظل غلاء المعيشة المتصاعد، والقوانين الجديدة التي تضع شروطًا معقدة أمام جيل الشباب، كالحق في الأرض السكنية، ليست مطلبًا غائيًا ما لم يقترن بمثل تلكم الخطوات، فكيف، ومن أين سيوفر شباب كرامة المسميات التمويل المالي المسبق حتى تُمنح له قطعة أرض سكنية؟ قضيتهم تتجه إلى استحكام التعقيدات، فراتب 325 ريالا، كيف سيتزوج منه شباب كرامة المسميات؟ وكيف سيؤمنون به متطلبات الحياة الزوجية؟ أو يسعون لامتلاك مسكن الحياة الآمنة؟

إنَّ أية عملية تطوير أو تحديث في المفاهيم والمسميات والقوانين والسياسات والاستراتيجيات، ما لم تكن شاملة، وتأخذ بعين الاعتبار المنظومة كلها "في التخطيط والتطبيق"، ستظل ناقصة في استيعاب كامل التحديات، وربما تحدث مشاكل تبعية أكثر خطورة، كفقدان الحق في الأرض السكنية بعد تقييده بالتمويل المالي المسبق، فكم من شاب سيتوفر له الإمكانية لامتلاك الأرض السكنية؟ ستكون لأبناء الأغنياء الأولوية في كل شيء، مثلًا في امتلاك الأرض السكنية، وفي بنائها، وفي التعليم المدفوع الثمن عبر مختلف مراحله بعد تبني فكرة نسخ مدارس عالمية في بلادنا، وفي فرص التعليم الجامعي، وفي مستقبل الوظائف (سيكون لي مقال مفصل في هذه القضية)، وبهذا نؤسس للمستقبل مجموعة اختلالات بنيوية عميقة، في باطنها جذور صراعات أفقية ورأسية، تصنع بلا وعي بمآلاتها..

ومن هنا، ندعو إلى إعمال الفكر في تأسيس مرحلتنا الوطنية المقبلة.