لن.. أسامحها!

 

فاطمة اليمانية

 

"كيف يكون التسامح، وما زال بيننا نزيف يتدفق في الأعماق؟" فاروق جويدة.

*****

 

وصلتها رسالة من أختها الكبيرة:

(لكل من أخطأتُ في حقّه، أرجو منكم أن تسامحوني حتى يتقبل الله منّي صيامي وقيامي، وكل عام وأنتم بخير).

فردّت عليها:

  • لن أسامحك!

ثم وضعت هاتفها، وتابعت أعمالها!

أعمالها المؤجلة حتّى هذه اللحظة! أعمالها المُهْمَلَة طويلا! المعلّقة على رؤوس أولادها وهم ينظرون إلى وجهها المكفهر كعلامتي استفهام وتعجب؟!

  • ماذا حلّ بها؛ لتعيش شهرا كاملا من التوتر؟!

كانت أمّا لخمسة أيتام.. مات زوجها باكرا.. وأصغرهم في الشهر الأول من عمره.. وعندما ضاقت عليها الأرض بما رحبت.. وجدت في جارتها وزوجها خير صاحب ومعين..

مرّ عام ولا شيء يكدر خاطرها غير الحزن على فقد زوجها.

كان خبر وفاته كالصاعقة عليها.. لكنّ منظر أطفالها أمدّها بالقوة والصبر.. كما فتحت لها جارتها نافذة الأمل في الاتّكال على سند في القرية؛ فلن تضطر إلى العودة بأطفالها إلى منزل ذويها.. الذين تخلّوا عنها، واستحوذت زوجة والدها وإخوانها على المنزل والإرث، وعندما أرادت الشكوى، أسكتها زوجها قائلا لها:

  • سامحيهم!

ثم مسح على لحيته الطويلة، وسرد لها الكثير من القصص الدينية التي تتحدث عن عاقبة الصبر على الابتلاء، ومسامحة الأهل، وصلة الرحم، وختمها بالتعدد! ولم تكن تفهم الرابط بين قضية إرثها والتعدد، لكن عقرب الساعة جعلها لا تناقشه؛ بل تسرع لإعداد الطعام قبل عودة أبنائها من المدرسة.

وأدركت الآن بعد وفاته أنّها أخطأت في حقّ نفسها، وفرّطت في إرثها مقابل شعارات زائفة!

لذلك عقدت عزما على ألّا تتنازل عن حقّ من حقوقها.. في هذا الزمن الذي لم تعد لكلمة المسامحة قيمة في نفوس الآخرين.. فيعتبرونها سذاجة وغباء.

ومنذ شهر تقريبا.. عادت الرسائل من جديد.. من أختها تبحث عنها.. تطلب منها زيارتها وأن تسامحها.. لكنّها تفاجأت بردّها عندما سألتها عن نصيبها من إرث والدها:

  • عن أيّ إرث تتحدثين؟!

تمالكت أعصابها.. وأرسلت لها:

  • إرثي من والدي رحمه الله.
  • لكنّك استلمتِ إرثك!
  • لم أستلم شيئا!

فهاتفها أحدُ إخوانها.. وأكّد لها بأنّ زوجها المرحوم هو من استلم نصيبها من إرث والدها! وعندما سألته كيف تعطونه إرثها دون حضورها، قال لها ساخرا:

  • ألم يكن المرحوم قدّيسا كما كنتِ تقولين؟!

أغلقت المُكالمة عاجزة عن الرد.. وقد فتح لها بابا من أبواب الشكّ! وشعرت بدوار أقعدها نصف ساعة.. نصف ساعة ظلّت واجمة.. تسترجع ذكرياتها مع زوجها.. وكيف كانت تكابد معه عناء الشحّ والتقتير.. فهل يعقل أنّ يكون استلم إرثها دون إبلاغها؟! هل كانت مطالبته لها بمسامحة زوجة أبيها وإخوانها خديعة منه؟!

وقرأت رسالة ثانية من أخيها يقول فيها:

  • على كلّ بإمكانكِ اللجوء إلى الجهات المختّصة إذا كنتِ تشكّكين في كلامي!
  • أي جهات تعني؟!
  • المحكمة.. أو الادعاء العام!

اكتفت بالصمت.. لأنّ مجرد اللمز بهاتين الجهتين تعني أنّ العلاقة مع عائلتها انتهت! ولن يجرؤ على مثل هذه الكلمات إلّا راغب في قطع علاقته بها.. فأيّهم الكاذب؟!

  • لا يهم..

المُهم أنّ فئة من البشر تعلو على الشياطين بدرجات.. تثير الشكّ.. تزعزع ثقة المرء في نفسه.. وفي قيمه وفي مبادئه.. وفي كل معاني التسامح.. وبنفس قدرتهم على زرع بذرة الضغينة والأحقاد.. يرسلون رسالة سَمِجة قبل أيّ مناسبة دينية.. ويطالبون الآخرين فيها بالمسامحة!

  • سامحونا!!

لكنّها تذكرت صديقة قديمة.. ركنتها في تابوت النسيان.. تلك الجارة التي كانت لها سندا في مواجهة الحياة.. وسخت بنفسها ومالها ووقتها وشجّعت زوجها على الوقوف بجانبها.. وقالت له:

  • هذه أختي التي لم تلدها أمّي.

وتسامت على مشاعر الغيرة.. ولمز الجارات.. وتلميحات النَّاس.. وتحذيراتهم بأنّها يوما ما ستغرّر به.. ستخطفه منها! وستتجرع الأمرّين بسبب غبائها!

فتقول لهم واثقة:

  • ثقتي بها عمياء.. أنا أعرف هذه السيدة جيدًا.

كان محور تفكيرها كيف تنتشل جارتها الأرملة من حزنها.. وساعدتها كثيرًا.. وجمعت لها مبالغ مالية من الموسرين من أهل القرية.. ومن أهل الخير والعطاء.. وكفتها عن المسائل التي تحتاج فيها إلى وجود رجل ليقوم زوجها بالمهمّة.. رغم ذلك انتقلت من القرية فجأة.. دون سابق إنذار.. لتقيم قرب عائلة زوجها، بعد أن حضر عم أولادها وخيّرها بين الرحيل معه هي وأولادها، أو أخذ أبناء أخيه؛ إخراسًا للألسن!

ولم تُجادله كثيرا.. ورحلت بأبنائها لتقيم في بيت صغير في أرض واسعة فسيحة ملك للعائلة.. حيث كان لكل ابن بيت صغير مكون من غرفتين ومطبخ وصالة.

هي أيضاً لم تكن ملاكا.. كائن بشري معرض للمزاجية.. والنسيان.. للكسل.. للتقاعس.. للانزواء والاختباء بعيدا عن الواجب.. والمفروض وما ينبغي..

ذرفت دموعها.. وشاركها أبناؤها ذرف الدموع متأثرين دون معرفة السبب.. وتحولت الدموع إلى نحيب موجع.. ظنّا منهم أنّها تبكي فقيدا.. وعندما سألها أحدهم:

  • من مات يا أمّي؟!
  • أنا!

فاحتضنها ابنها وقبلها على رأسها، واقترب بقيتهم منها بين مطبطب على رأسها وممسد ذراعيها.. وجالس تحت قدميها..

هذه الأمّ الخمسينية التي آثرت تربية الأيتام على نفسها.. ولم يسمعوا منها إلّا كلمات الخير والثناء على الجميع.. ولم يسبق لها أن ذكرت عائلتها بسوء رغم انقطاع علاقتها بهم..

رفعت رأسها وقالت لهم:

  • أريد الذهاب إلى الحارة القديمة.
  • كلنا سنذهب معكِ.

ومرّت ساعة من الصمت المطبق.. حتى وصلوا إلى الحارة القديمة التي تلاشت ملامحها.. وحلّت المباني الجديدة محلّ القديمة الداثرة.. وكان بيت الإيجار الذي كانوا يقطنون فيه سابقًا قد تحول إلى مبنى من ثلاثة طوابق.. ومكان بيت الجيران بيتا واسعا مبنيا على أحدث طراز..

وقبل أن ينزل أحد أبنائها، سألته وهي تحدّق في الباب الكبير:

  • هل هذا منزل أم معاوية؟
  • حسب الوصف.. هو!

فنزلت خلفه، ووقفت قربه في انتظار خروج أي أحد من سكان المنزل.. فخرجت العاملة وسألا عن أمّ معاوية..

فدخلت وعادت مرّة ثانية تطلب منهم الدخول.. وأسرعت لفتح باب المجلس.. وفي تلك اللحظة خرجت أم معاوية تمشي ببطء.. وترحب بالقادمين.. ورأت امرأة وخلفها خمسة شباب في أعمار متقاربة فسرت في قلبها رعشة عتاب.. ونزلت بخطواتها البطيئة على الدرج قاصدة الاقتراب منها ومن أبنائها.. واحتضنتها باكية، بكاء عتب وحرقة.. وحنين لسيدة حملت أشلاءها وأبناءها وغادرت بصمت..

  • ليلى؟ أم محمد
  • سامحيني يا أم معاوية.

تحدثتا طويلا.. واعتذرت من جارتها.. واتفقتا على التواصل من جديد.. وعرفت من أم معاوية أنّ زوجها توفي منذ عامين، وشقيقته الكبيرة (أم علي) تقيم معهم بعد سفر ابنها وزوجته، وهي مُقعدة، ومُصابة بمرض الزهايمر.. ثم أخذتها لرؤيتها والسلام عليها، وقالت لها:

  • هذه ليلى أم محمد، جارتنا.. هل تذكرينها؟

حدّقت أم علي في الجارة.. وصمتت قليلا.. وأرخت بصرها كمن تتذكر شيئا ما.. وعندما كرّرت أم معاوية إخبارها عن الجارة، رفعت بصرها تجاه أم معاوية، وقالت لها:

  • ليلى.. أم محمد.. الجارة الأرملة التي ذهبت إلى أهل زوجها وقلتِ بأنّها تزعج زوجك بطلباتها، وطلبتِ منهم أخذها هي وأولاد شقيقهم حتى لا تحدث فضيحة في الحارة!

اكفهرّ وجه أم معاوية.. وظلّت صامتة دقيقة كاملة، بينما تمالكت أم محمد نفسها، وحاولت التصرف كأنّها لم تسمع شيئاً مخفية هول الصدمة من جارتها، أو أنّ هذه العجوز الخَرِفة تهرف بما لا تعرف!

لكنّها خرجت من منزل أم معاوية بوجه مخطوف، وتركت خلفها أم معاوية بنفس الوجه.. ولم تخبر أبناءها شيئا عن كلام أمّ علي، وأدركت بأنّ بعض الأبواب التي تغلق فجأة رحمة من الله، وبأنّ الحماقة أحيانا أن يحاول المرء فتح هذه الأبواب، ولو لم تأتِ لزيارة أم معاوية؛ لظلّت تحمل في قلبها ذكرى طيبة لها إلى يوم القيامة..

لكنّها الآن تتعايش مع وضع مختلف.. الشكّ في زوجها المتدين، والشكّ في جارتها الطيبة.

في الطريق سألها أحد أبنائها إذا كانت تريد شيئا، فقالت له:

  • استخرج لي بطاقة هاتف جديدة!

(النهاية)