عائشة السريحية
عزيزي القارئ، أدرك جيدا أنك الآن أصبحت تألف حديثي النابت على صفحة الجريدة، لذا أرغب في إخبارك بأني سعيدة جدا بتواجدك، سأبدأ اليوم معك بقصة متداولة سمعتها قبل حين، قيل إن نمرا وحمارا تجادلا حول لون العشب في الغابة، فكان الحمار يرى أنَّه أزرق، بينما النمر يصر على أنه أخضر اللون، واشتد الجدال حتى بلغ بهما الجهد مبلغه، فاقترح النمر أن يحتكما لملك الغابة.
وحين ذهبا للأسد، طلب من النمر الحديث أولًا فقال:
"أيها الملك، إنَّ الحمار يقول إن لون العشب أزرق، وأنا أقول إنِّه أخضر، وجئنا إليك لتخبرنا من منَّا أصح".
أدار الأسد رأسه نحو الحمار وقال له ما قولك:
فأجاب الحمار بكل ثقة:
لقد جادلني طويلاً فيما أنا موقن به، فهل هو كذلك؟
أجاب الأسد:
إن كنت تراه كذلك فهو كذلك.
وعاقب الأسد النمر، أن يلزم الصمت ثلاثة أيام.
خرج الحمار يرقص فرحًا مزهوًا يصرخ:
"لون العشب أزرق، لون العشب أزرق".
وحينها سأل النمر الأسد باستغراب وقال:
"يا سيدي إني موقن أنَّك تعلم أن لون العشب أخضر، فلم عاقبتني؟"
زأر الأسد معبرًا عن غضبه وقال:
"حيوان بمثل مهارتك وذكائك يضيع يومًا كاملًا ووقتًا ثمينًا في جدال لا جدوى منه مع حمار لا يفقه سوى أكل الشعير!
ولم تكتف بذلك؛ بل أحضرته إليَّ وأضعت وقتي أيضًا وأنت تعلم أن لون العشب أخضر.
لذلك تستحق العقاب جراء ما فعلته، ولا علاقة للعقاب بلون العشب".
نفهم منذ ذلك أنَّ إضاعة الوقت مع الحمقى الذين لا يعرفون شيئًا لمجرد تحقيق الانتصار للذات، هو خسارة بحد ذاتها. أن تدخل في نقاش ياعزيزي القارئ مع شخص لم ولن يستوعب أهمية ما تطرحه، أو أنَّ لديه موقفًا سابقًا قد اتخذ، أو أوهام بنيت في مخيلته، أو صراع نفسي يقوده لاتخاذ خطوات حمقاء، الهدف منها هو كنهيق ذاك الحمار بفوزه على النمر، هو هدر لجهدك ووقتك، ومضيعة لعقلانيتك وذكائك.
لِتعلم ياعزيزي أن من الناس من ينصبك عدوًا وهدفًا لمرمى نباله، لمجرد أنك لم توافقه الرأي، أو لم تتفق معه في وجهة نظر، يحل الخلاف محل الاختلاف، وهناك من هو أسوأ، أولئك الذين يبنون من أوهامهم ومخيلاتهم سيناريو فيعيشون به وعليه، ويتعاملون مع الآخر وكأنه مصارع في حلبة معركة للمصارعة.
أو يعيشون بوضعية المضطهد، وهو نرجسي لئيم.
إن استطعت أن تترك الجدال مع هذه الفصائل من البشر فاتركه وأنت الرابح، فليس من اللائق بك أن تضع وقتك وجهدك على جدل سفسطائي، لا ثمار له سوى التوتر والضغط النفسي.
وأنت يا عزيزي الآخر، إن أردت الاستمرار في تنصيب منصات الصراع من أجل الصراع، فأقول لك إن طريقك الذي أدمنته قد بعثر فيه الحطام، ألا ترى أنك تحتاج لتغيير المسار، لم تصر على المضي فوق شوك يستقر في قاع قدميك العاريتين، إن المكابرة قبيحة ودميمة، لست بمواجهتك الرياح المحملة بالقاذورات تثبت شجاعة، أو تسطر نصرا، إن ما تفعله هو عبثية حمقاء، انظر للاتجاهات حولك، ألا تشعر بجمال نبض الشمس في فجر يحمل الكثير من المفاجآت، ألا تسمع ضحكات الأطفال تتراقص مع زقزقة العصافير في الاتجاه المغاير محملة بالأمل، وتسترشد بعين البصيرة؟
لم لا تنفض غبار الاتجاه الواحد، كفاك هدرا للوقت والجهد، إن ما تتخيله لا يتجاوز محيط ظلك، أفكارك المحصورة تختنق غرقا في بئر الوهم الذي حفرته بيديك، لتصنع لك تابوتا يعزلك عن جوهر الحياة.
الطرق عديدة، أرصفة شارعك القديم باتت مزلقا خطرا ابتعد عنه فمع كل خطوة يزداد الشيب في رأسك.
لا تعلق يا صديقي في فخ الوهم، ذلك الجيش السري الذي يبني قلاعه ومتاريسه ثم يجزؤك لأجزاء كثيرة متناهية في الصغر، ويتركك تواجه ما أعد لك من حروب وصراعات، وتبدأ أجزاؤك الصغيرة تموت تباعاً، هل فهمت لم أسميته فخا!
توقف عن الشكوى والبكاء، لن يسمعك أحد ألا ترى أنك حين تبدأ في التذمر يضعون أصابعهم في آذانهم، كفاك حنقا وكفكف دموعك فلا معنى لها في زمن أصبحت أنت فيه مجرد رقم.
ولا تلوح للمساعدة لإنك أنت سبب المشكلة، توقف عن الزحف في طريق سيهلكك، وغير كل شيء حولك، رفيقك الذي تظنه صديقاً لا أراه سوى مصنعاً لإنتاج السموم، علاقاتك المسمومة تخلص منها، انظر للأثر الذي يتركونه بداخلك، تلك الترسبات التي جعلت جوفك مليئًا بأثقال اقعدتك أرضا، تجرها بخطوات متهالكة، تبدو كهامستر (أحد أنواع الفئران) محصور في قفص على دولاب متحرك، كل ما زادت حركته كلما ضاع وقته وجهده وهو في ذات المكان.
الحقيبة التي كدستها بأوراق وملفات الماضي، قد أرهقت ساعدك في حملها، تيبس رسغك ووقع كتفك، وما زلت مُصرًا على الاحتفاظ بها، ألم تجرب الطيران من قبل، أرم الحقيبة وطر عاليا، فالتحليق يمنحك فرصة عظيمة لرؤية مساحات أوسع في الأفق، لأن كل ماحدث في الماضي ماهو إلا ملفات مطوية فلم الاحتفاظ بها؟
تخلص من تلك الأثقال، وغير الاتجاه، وارسم خطًا للانطلاقة، ثم ارسم منه خطوطًا أخرى برؤى منوَّعة، وباحتمالات عديدة، حبك للركض جميل، ولكن استثماره لقطع مسافات كبيرة للأمام هو الأجمل، لا تتوقف عند اختلاق المشاكل ولا تضع وقتك في مقارعة الآخرين، اتركهم وامض، فإن علقوا في ذات المشكلة فستسبقهم، وإن حاولوا بذل مزيد من الوقت لعرقلتك، فسيفشلون، إذن لم تعطهم أكبر من حجمهم؟
الحياة ساعة رملية، إما أن تقضي عمرك تتأمل تسرب رملها، أو تتخطى مرحلة الاختناق تحت ذراتها، ولا تسقط آخر ذرة إلا وقد انتهيت من كل أهدافك التي حلمت بها. ولا تكن من أولئك الأغبياء العالقون في المنتصف.