مستقبل العرب في النظام العالمي الجديد

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري.

 

تتجه أنظار النخب والساسة والمؤرخين في هذه الأيام إلى التنبؤ ورصد وتحليل ما يدور في عالمنا من أحداث غير عادية أفرزتها الحرب الدائرة في شرق أوروبا وتداعياتها على السلم الدولي؛ إذ هناك اعتقاد على نطاق واسع بولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، منهيًا بذلك سيطرة القطب الواحد المتمثل بالولايات المتحدة التي قادت العالم منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين في أعقاب انهيار ما يعرف بحلف "وارسو" الشيوعي والذي تولى قيادته ما يعرف بالاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.

الخبراء يعتقدون أن أمريكا قد تراجعت قوتها وضعفت إمكانياتها العسكرية وتحتاج إلى مدة طويلة لرفع معنويات جنودها الذين لحقت بهم الهزائم في أفغانستان والعراق، وقبل ذلك في فيتنام. ووسط هذا الترقب والتوجس والخوف من المستقبل وما تحمله الأيام والشهور القادمة من أحداث؛ وذلك بعد انتهاء حرب أوكرانيا في قادم الأيام، تظهر على السطح دعوات قومية جرئية من بعض صناع القرار العرب لأول مرة منذ عقود؛ وفي مُقدمة هؤلاء الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رئيس وزراء دولة الإمارات العربية المتحدة وحاكم دبي الذي قال متسائلا "ألم يحن للعرب أن يتقاربوا.. ويتعاونوا.. ويتفقوا.. حتى يكون لهم وزن.. ورأي.. ومكانة في التاريخ الجديد الذي يصنع الآن".

بالفعل.. لقد عانى العرب الأمرين عبر القرون منذ احتلال عاصمة الخلافة العباسية (بغداد) على يد الجحافل المغولية القادمة من الشرق بقيادة هولاكو، وذلك في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد ثم بعد ذلك سقطت غرناطة التي تمثل آخر معاقل العرب في الأندلس عام 1492م، ومنذ ذلك الحين تراجع دورالعرب في قيادة الأمة الإسلامية التي كانت تعتمد عليهم في إدارة الدولة، وفتح البلدان ونشر الدين الحنيف في أصقاع الأرض، ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، إلا في القرن العشرين عند ظهور الدويلات الصغيرة التي جزأتها ووجدتها الدول الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر والعشرين الميلادين، وإشهار حكامها الموالين للخارج، ويعود السبب الرئيسي لهذه الهزائم والنكسات التي شهدتها الأمة في ذلك الوقت إلى الفساد المالي والاستبداد والسيطرة على مقدرات الأمة والانفراد بالحكم في الشرق، بينما كان النزاع والخيانات التي لا تنتهي بين ملوك الطوائف وتشرذمهم في الغرب، كما هو حالنا اليوم في القرن الحادي والعشرين. من هنا ظهرت الدولة العثمانية التي قادت الأمة الإسلامية التي يشكل الوطن العربي عمودها الفقري لعدة قرون.

وفي نهاية الحرب العالمية الثانية بادرت الدول العربية التي خرجت من أنقاض السيطرة الأجنبية والنفوذ الدولي إلى تأسيس بيت للعرب في قلب الوطن العربي النابض القاهرة، أطلق عليها "جامعة الدول العربية"، وكان هدف هذه الرابطة جمع شمل الأمة وتوحيدها في مواجهة الأخطار المحدقة بالعرب من كل صوب، وكذلك كان ضمن أهداف هذه الجامعة النهوض بالإنسان العربي والارتقاء به في مختلف المجالات التنموية والاقتصادية والثقافية، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ إذ لم يتحقق إلا القليل من طموحات العرب وآمالهم نحو الوحدة الشاملة. وعلى الرغم من الثروات الطائلة التي يملكها بعض أثرياء العرب في البنوك الأجنبية والتي تقدر بأرقام فلكية، إلا أن هناك عشرات الملايين من أبناء الوطن العربي تحت خط الفقر في الوقت الذي تكشف الإحصائيات أن هناك 57 مليون عربي لا يعرفون القراءة والكتابة. والأسوأ من ذلك كله أن 75% من المشردين واللاجئين في هذا العالم هم من العرب؛ بل أصبح الدم العربي الذي يراق في كل الطرقات؛ الأرخص على الإطلاق في هذا الكون سواء كان ذلك من الصهاينة في فلسطين المحتلة أو التنظيمات الإرهابية التي تتخذ من الدين الإسلامي غطاءً لها في العراق وسوريا أو الأنظمة المستبدة التي تقتل وتسجن لتبقى في السلطة بأي ثمن ولو كان ذلك فوق جثث ضحاياها في العديد من الدول العربية.

لا شك أن قوة العرب في وحدتهم وتكاتفهم ونبذهم للخلافات والضغائن بين الإخوة والأشقاء الذين تربطهم علاقة النسب والمصير الواحد والتاريخ المشترك وروابط الدم الواحد، فهم يشكلون أكثر من 5% من سكان المعمورة، بينما تشكل مساحة الوطن العربي حوالي 10% من المساحة الكلية للعالم. كما توجد ثروات نفطية هائلة تحت أقدام العرب؛ تزيد عن 55% من الاحتياطي العالمي للنفط.

إن ما يحتاجه العرب اليوم أكثر من أي وقت مضى هو التمسك بمصلحة الأمة والإخلاص للوطن العربي الكبير؛ والتي لا يمكن لهما أن يتحققان دون نبذ الأنانية، وحب السلطة المطلق.

يبدو لي أننا نحتاج إلى معجزة لكي يصبح لنا مكان تحت الشمس، فالذي ينقص العرب في هذه المرحلة التي يعاد فيها صياغة وتشكيل النظام العالمي الجديد؛ هي الإرادة الصادقة باستقلال القرار العربي وتوحيده لتحقيق أهداف الشعوب العربية في الحياة الكريمة بعيدًا عن الإملاءات الأجنبية من الشرق والغرب، وقبل ذلك التمسك بقيمنا الأخلاقية الخالدة، وديننا الحنيف، وهنا استحضر حكمة خليفة المُسلمين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال: "نحنُ قومٌ أعزّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العِزّة بغيره أذلّنا الله".