المكرم/ د. إسماعيل بن صالح الأغبري
مبدأ أصيل من المبادئ التي أقرتها الأمم المتحدة وارتضتها كافة الدول المنضوية تحت قبة هذه المنظمة إنه مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وهذا المبدأ تتحاكم إليه كافة دول العالم وتتغنى به جميع الأنظمة إلا أنَّه للأسف الشديد قلما يتم الالتزام به عمليا وإنما هو مجرد شعار يتم رفعه نظرياً.
يُقصد بهذا المبدأ الأصيل هو ترك الدول تدير شؤونها دون فرض إرادة غيرها عليها سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أي رفع اليد عنها بعدم توجيهها الوجهة المعارضة لإرادة الدولة.
وعدم التدخل في شؤون الدول أخذت به سلطنة عمان قولا وعملا والشواهد على ذلك كثيرة منها احتجاج الدول العربية على مصر عند إعلانها اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 وتبادل الاعتراف المصري الإسرائيلي ورفرفة علم مصر في تل أبيب ورفرفة علم تل أبيب في القاهرة فقطعت الدول العربية علاقاتها مع مصر وأصرت على نقل مقر الجامعة العربية منها وتجنب اختيار أمين عام للجامعة العربية من مصر.
عُمان كانت حالة استثنائية في موقفها من مصر وعدم قطع العلاقات معها ولكنها كانت واقعية فمصر هي التي كانت تخوض المعارك ضد إسرائيل وهي التي تتعرض للتدمير والغارات بشكل واسع ومصر هي رأس الحربة من بين الدول العربية ضد إسرائيل أعوام 1948 و1956 و1967 و1973 ولم تكن الدول العربية في معظمها تدعم مصر إلا دعما معنويا وماديا خجولا.
سلطنة عمان ليست وصية على مصر ولا وكيلة لها ولا مشرفة عليها ومصر أدرى بأوجاعها وما أصابها من ضرر بشري واقتصادي وسياسي، كما إن عمان كانت واقعية في عدم قطع علاقاتها مع مصر، ذلك أنه في تلك الأعوام كانت الدول العربية كافة تحتاج لأطباء مصر ومهندسي مصر ومزارعي مصر ومُعلمي مصر حتى لايكاد يجد الإنسان بلدا عربيا إلا والمصريون أطباؤه ومهندسوه ومعلمو أبنائه فكيف تُعلن الدول العربية قطيعة مصر وهي حتى النخاع تحتاج إليها؟
وضعت الدول العربية شروطاً صارمة لعودة العلاقات مع مصر منها سحب اعترافها بإسرائيل وطرد سفير إسرائيل من القاهرة وسحب مصر سفيرها من تل أبيب. ولم تكتف الدول العربية بمهاجمة مصر إعلامياً وإنما غمزت صحف وجرائد العرب، عُمان ولمزتها وصرحت بالتعرض لها نقدا ولوما وتقريعا؟
الغريب أن هذه الدول استمرت تستجلب الأطباء والمهندسين والمزارعين والمعلمين من مصر فكيف تكون لها مقاطعة وهي لها في أمسِّ الحاجة؟
من بعد اعتبار العرب مصر واقعة في خطيئة وذنب كبير بدأت الدول العربية تغازل مصر وأخذت تُعيد معها العلاقات الدبلوماسية وتخلَّت عن شروطها ولم تسحب مصر سفيرها من تل أبيب ولم يتم طرد سفير إسرائيل من القاهرة فكيف أعلنت الدول العربية توبة مصر وهي لم تستجب للشروط؟ ألا يدلنا هذا أن عُمان واقعية ولا تبيع للشعوب أوهام الصخب والشجب والتنديد؟ وتطور موقف الدول العربية أكثر فأكثر فبعد قطيعتها مصر وشنها حملة عليها فإنَّ ذات الجامعة العربية اعترفت بإسرائيل في حدود عام 1967 وأخذت تسوق ذلك وتروج له وتستجدي العالم في ذلك فكيف صار حلالًا وقد كان من قبل حرامًا؟
إنَّ ذلك يثبت أن الدبلوماسية العمانية لا تتدخل في قرارات غيرها من الدول كما يتضح من ذلك واقعية السياسة العُمانية وعدم ميلها للشعارات والهتافات.
ثم تطور موقف الدول العربية مع إسرائيل بأن أقامت دول عربية أخرى علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وهي التي كانت تعيب ذلك الأمر على مصر ولم نر اتخاذ الدول العربية من تلك الدول الموقف الذي وقفته من مصر ذلك أن أكثر الدول العربية صار لها علاقات من تحت الطاولة مع إسرائيل بالإضافة إلى العلاقات من فوق الطاولة.
وعندما أقبل عام 2011 واندلع لسان ما يُسمى بـ"الربيع العربي" اضطرب حبل العلاقات العربية العربية، فبعضها دعم ما يسمى بالربيع وهو لهيب حار وخريف لا ورق أخضر له وموّل وآوى وفتح إعلامه لإسقاط أنظمة حكم وأنفق مليارات في سبيل ذلك، وفي المُقابل فإنَّ دولا عربية وقفت ضد ما يُسمى بالربيع وانخرطت في الأحداث وبذلت الجهد وأنفقت المليارات من أجل تثبيت أنظمة وهذا يعتبر تدخلا في شؤون الدول.
سلطنة عمان لم تنغمس في أحداث ما يسمى بالربيع العربي، فتلك فتن تعصف بالدول فإن أمكن التهدئة فعُمان معها وإلا فإنها لم تكن طرفاً في الفتن.
وبعد سنوات مما يسمى بالربيع العربي تغيرت مواقف بعض الدول العربية ورأت أن لتلك الأحداث آثارا سلبية على العالم العربي ولم يكن منها حلو الثمار ولا طيب الجني وإنما دول عربية مفككة وحروب داخلية وولادة عشرات من الأحزاب الإسلامية والعلمانية والليبرالية والاشتراكية ما ينذر بمزيد من التصدع والتشظي في تلك الدول.
إن الدبلوماسية العمانية واقعية وفي كل مرة يثبت صواب منهج السياسة العمانية ورغم رجوع الدول العربية للمنهج العماني ولو بعد حين إلا أنها لا تعلن عن خطأ تخطئتها المنهج العماني.
وخاضت الدول العربية في الشأن السوري ودعمت كل تدخل في شأنها حتى صارت الأرض السورية مجمع استخبارات دول العالم العربية والإسلامية والأمريكية والغربية وأقبل على سوريا جماعات من كل حدب وصوب جماعات متناقضة بينها متضاربة الأهداف وكل منها ينشق على نفسه ويقاتل الجماعات الأخرى.
وانقسمت الدول العربية فمنها من يدعم هذه الجماعة وأخرى تدعم الجماعة الأخرى ما أدى إلى إطالة الأزمة في سوريا وتدمير كثير من مقوماتها وتشريد جزء كبير من شعبها وتهجيره وإبعاده في الخارج والداخل. ومن أعجب الأمور أن الدول العربية المتدخلة سلبا في الشأن السوري ترفض إيواء السوريين وتراهم في البحار يغرقون وهم يحاولون الوصول إلى أوربا فلماذا لم ترفع الدول العربية يدها عن سوريا ما دامت لا تقبل السوريين؟
لم تتدخل سلطنة عمان سلبا في الشأن السوري ولم تصب الزيت على النار ولم ينطلق إعلامها سوطا يجلد أحدا في سوريا بل احتفظت بعلاقاتها مع سوريا وإنما نقلت سفيرها إلى بيروت نقلا أمنياً لا سحباً دبلوماسيا وشتان بين الأمرين. وهاجمت بعض الأقلام عمان لعدم تساوقها مع الدول العربية حتى إذا ما مضى على الفتنة في سوريا سنوات أقبلت دول عربية لمغازلة الحكومة السورية وبدأت تتواصل معها من أبواب مختلفة منها البوابة الاقتصادية والسياحية ثم تطور الأمر إلى بروز علاقات سياسية ثم بدأت دعوات لضرورة عودة سوريا إلى الجامعة العربية؟ أي أن الذين عابوا على عمان موقفها عادوا إلى موقف عمان وإن لم يعترفوا بصواب منهج الدبلوماسية العمانية.
إن التدخل في شؤون الدول سلباً يُطيل أزماتها ويجعلها ساحة لتصفية الحسابات والتدخل يكون سبباً للحروب الأهلية وعمان تنأى بنفسها عن أن تكون حربة وسبيل حرب ضد دولة عربية أو إقليمية أو غيرهما.