طلْقةٌ واحدة.. لا تكفي!

 

فاطمة اليمانية

 

سأمشي وصولا للجسر.. وإذا ابتسم لي شخص أثناء الطريق.. لن أقفز!" (مجهول)

***

كانت ترغبُ في إفراغ ما في جوفها من دخان قاتم، فغرّر الشيطان بها؛ لتلّبي دعوة إحدى قريباتها التي استمرّ إلحاحها شهرا كاملا! وكانت ترسل لها رسائل شبه يوميه:

  • متى ستأتين لزيارتي؟ اشتقنا لكِ؟ الأولاد يسألون عنك.. تعالي وغيري جوّك الكئيب! سنذهب إلى التسوق.. إلى المزرعة.. إلى الاستراحة..

وتركت انطباعا في ذهنها أنّ قريبتها أعدّت برنامجا ترفيهيا حافلا بكل مقومات السياحة.. واستثنت البحر.. حتى لا تصاب بدوار البحر!

فردّت عليها وقد غلبها النعاس:

  • غدا بإذن الله.

لذلك استيقظت في الصباح الباكر طاردة هواجس الشكّ.. والشعور بعدم الارتياح للذهاب، وأقنعت نفسها بأنّها تبالغ في الحرص.. والحذر..

ولذلك وقفت أمام المرآة تلطّخ وجهها بمساحيق تجميل زادتها بشاعة، وهي تردد من رباعيات الخيّام:

  • غَدٌ بظهرِ الغيب.. واليوم لي!

    وكم يخيبُ الظنّ.. في المقبل!

وارتدت ثلاثة خواتم ذهبية، وسلسلة يد عريضة كانت تكرهها! لكن ما المانع من ارتداء ما تكره؟! لتظهر بمظهر يحاكي الأخريات في التزيّن!

ففي نظر (كبيرة العائلة) أنّ المرأة الحقيقية هي التي لا تتخلى عن ذهبها، ولا زينتها مهما حدث! لذلك كانت تضع الكحل في الأعراس، وفي أيام العزاء! ولم يحدث أنْ تركت يدها بدون حناء! حتى وهي ميته، لاحت يدها الحمراء من بعيد.. وشعرها الأحمر الذي حول جثّتها إلى جنّية حسناء ذاهبة إلى عالمها الآخر!

نفضت رأسها.. وانطلقتُ لزيارة قريبتها التي وقفت على بابها مرحبّة:

  • طلّ القمر!
  • تطورنا!

وتحدثتا عن تطور اللغة! وموت بعض المصطلحات والتعابير القديمة؛ لإحلال مصطلحات جديدة تلائم المباني الجديدة، وألوان العباءات الجديدة، والأظافر الطويلة والآذان المثقوبة من أعلى الأذن حتى أسفلها!

مرّت الساعة الأولى في سلام! كانت عيون قريبتها الجاحظة نائمة في محجرها! وشعرها الأشهب مشذب بطريقة غير مطمئنة! إلى أن وصلتها رسالة من زوجها! ويا ليتها لم تصل! ويا ليته لم يرسل في هذا الوقت بالذات!

قرأت قريبتها الرسالة! وأطلقت صرخة غريبة! إلى هذا اليوم لم تستطع استيعاب الصوت الصادر من حنجرتها! هل كان صراخا؟! هل ذلك الصوت إذا ما تمّ تحليله سيعطي تفسيرا يتلاءم مع مقاييس الصوت الآدمي! لكنّها تتذكرُ جيدا أنّه أصابها بهلع! وأخذ قلبها يرتجف رعبا!

  • ماذا حدث؟
  • اقرئي!
  • ماذا؟!

فألقت هاتفها على الأرض! وأخذت تبكي وتردد:

  • خائن! خائن!

وربط ذهنها تلقائيا بين هذا المشهد، ومشهد عتيق عالقٍ في ذاكرتها.. لزوجة باكية وزوج خائن! ورغم أنّها كانتُ صغيرة لم تتجاوز الحادية عشر بعد! لكنّها أدركتُ أنّ ثمة وجع قاتل اسمه:

  • الخيانة!

وأنّ ردة فعل الزوجات تكاد تكون متشابهة! وأنّ تلك الصرخة الصاخبة التي أطلقتها قريبتها مزيج بين الصدمة والحرقة! أكبر تعبير عن وجع الخيانة! أو الشعور بها! ولا يستدعي الأمر التأكدّ من عدمه! فالإحساس يكفي!

جذبتها من على الأرض وأجلستها قربها، وحدثتها طويلا! بل دخلت في سيرتها الذاتية! وخصوصياتها؛ حتّى تعرف أنّ هذه السيدة الصامتة ليست أفضل حالا من غيرها!

وطلبت منها الاستمتاع بحياتها! والتركيز على تربية أبنائها! وتغيير نظرتها لمفهوم السعادة، فهي بلا شك لن تتوقف على زوج أو حبيب أو خائن!

وأنّ ذلك الركن المنسي في الصالة يحتاج إلى مزهرية! والستائر المُهْمَلة تحتاج إلى ربطة ذهبية! لتجديد طلّتها!

ومنزلها جميل جدا وواسع وحديث الطراز! ولها شرفة بإمكانها أن تضع فيها كرسيين، وطاولة مستديرة لتستيقظ في الصباح الباكر؛ فتشرب فنجانا من القهوة أو كوبا من الشاي وتستمتع بصوت العصافير ومنظر الزهور في حديقتها الجميلة!

وشعرت وهي تحدثها كأنّها تشرح درسا في الإحصاء لطالبة في الحلقة الأولى!  هدَأَت قريبتها قليلا.. وأخذَت تحدّق في وجهها مبتلعة الكثير من أفكارها الهمجية! ثم قالت لها:

  • سأترك المنزل! ما رأيكِ أن توصليني أنا والأولاد إلى منزل عائلتي؟!

فاعتذرَت منها؛ لأنّ مساعدتها على الخروج من بيت زوجها بهذه الطريقة؛ ستعقد الأمور!  ومن غير اللائق! وليست في أعراب العرب! ولا العجم! ولا في أيّ عرفٍ أو قانون دولي أنْ تأتي الضيفة؛ لتهرّب زوجةً -بحقائبها وأطفالها- من منزل الزوجية! قالت لها بعد ساعة استنزاف من النصائح والمواعظ وشرب دلّة قهوة كاملة، ولترين من الماء الحار، وإفراغ علبة محارم ورقية في مسح الدموع وسيلان الأنف! وهزّ رأسها للأعلى والأسفل! وضرب طفلها على ظهره حتى يكفّ عن إزعاجه، حيث كان يصعد على الطاولة ويقفز مما تسبب لها في تشتيت تركيزها وهي تتحدث عن أزمتها مع زوجها وأهل زوجها الذين يكنّون لها العداء والحسد والسحر؛ لينصرف باكيا غاضبا منها، متوعدا إياها بالطلاق!:

  • سأطلب من والدي أن يطلقك!
  • ولد!

ثم أشار بثلاثة أصابع في وجهها:

  • بالثلاث!

فنهضت لتزيده ضربا، فاعترضت ضيفتها طريقها مطالبة إياها بالهدوء، فهو طفل لم يتجاوز الرابعة! مذهولة من نفسها! أو أين كان عقلها عندما وافقت على هذه الزيارة! وهي التي تكره الزيارات والارتباطات! متسائلة معها عندما تتحدث عن ثقتها العمياء في زوجها:

  • أين كان عقلي؟!

لتردّ عليها بنفس السؤال متحسرة على قبول دعوتها:

  • أين كان عقلي؟!

 ثم سألتها:

  • لو كنتِ مكاني، ماذا ستفعلين؟!
  • توقفي!

وعادت لدور الواعظ الذي تحتاجُ إليه شخصيا! وحاولت إفهامها بأنّ لكل إنسان طاقة على التحمل، والمواجهة! وبأنّ الظروف تختلف! كاختلاف البشر في الاهتمام بنظرة المجتمع! إذا كانوا يقدّسونها أو لا تعني لهم شيئا على الإطلاق! ثم طلبت منها التعامل بحكمة مع زوجها!

  • حكمة من؟!
  • لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم! استئذن في الرحيل!

وفعلا استطاعت الفرار من بيت قريبتها، بعد أن يبست عروقها، وتصلّبت شرايين عنقها! وهي تقنعها في إعادة ملابسها وملابس أطفالها إلى الخزانات مرّة أخرى! عندما دخلت غرفة الضيوف للصلاة، ثم خرجت إلى الصالة لتشاهد أمامها خمس حقائب متفاوتة الحجم! لأمّ غاضبة وثمانية أطفال أكبرهم في الرابعة عشرة من عمره! يقفون قرب الحقائب بانتظام! وكأنّهم في مهمة عسكرية! أو اعتادوا جمع ملابسهم وصفّ حقائبهم! كل ولدين في حقيبة، وأكبر الحقائب لأمّهم! وسَمِعَتها تقول لابنتها صارخة:

  • أين الحقيبة الرمادية؟!
  • تركناها في منزل جدي في المرة الماضية!

لتشيح بصرها مستاءة من نفسها! وكيف خانتها الذاكرة لتنسى أكبر الحقائب!

  • حقيبة الطوارئ!

تمالكت أعصابها من جنون قريبتها.. وطلبت من أبنائها العودة إلى غرفهم.. وفتحت نشرة إخبارية جديدة تذكرها بالخطأ الذي تقترفه حين تغادر منزلها مع أطفالها بهذه الطريقة! واخترعت المزيد من القصص.. بعضها من الذاكرة! وبعضها سبق وأن ذكرتها لكن عكست أحداث القصّة لتبدو كأنّها قصّة جديدة! المهم أن تهدأ وتسمح لها بالرحيل!

وفعلا غادرت.. وفي داخلها شعور جديد..

شيء غريب لم تعثر له على تفسير! شيء كانت له قدرة مهولة على نزع الوجع الذي كان يعتري قلبها! مذهولة من كون الحياة تعطي المرءَ أشياء كثيرة؛ لكنّه لا يشعر بقيمتها، بل يظلّ متعلقا بالقشور! بالمنغّصات الواهية!

وصلت إلى المنزل الذي كانت جدرانه تضيق عليّها في الصباح الباكر؛ لتدرك بأنّ هذا المكان، وهذا العالم الهادئ المنزوي أكثر الأماكن أمناً، وسعادة!

وفتحت رسالة من قريبتها تعتذر منها على ما بدر منها، وتطالبها بتكرار الزيارة!

قريبتها التي تمتلك كل مقومات السعادة، السيارة الفارهة، والفيلا الراقية، والرصيد البنكي، والكثير من الحلي والمجوهرات التي ركنتها في الخزانة، ولديها ثمانية أطفال والتاسع في الطريق، وتفتخر بإنجابها! وبتربيتها لهم، فهم – كما تقول- مؤهلين للتعامل مع الأزمات! مع حالة الطوارئ الشهرية التي تفرضها عليهم في المنزل! ومع استمرارها في إدارة المعارك، وتحقيق النصر المزعوم!

  • المهم أن تحافظ على زوجها وعائلتها!

زوجها الكئيب! وبيتها الذي طردت منه جميع البشر، وهربت منه الشياطين فرارا من صراخها وجزعها! حين قال شيطان لآخر وهو يلوذ بالفرار من نافذة الحمام:

  • إلى أين؟!
  • هذه السيدة لا تطاق!

(النهاية)