المعتصم البوسعيدي
في عالمِ كُرةِ القدم حاراتٌ متضوعةٌ برائحةِ الطين، تتدحرجُ فيها رقعةٌ جلديةٌ منفوخة؛ فتثيرُ الصخب على سكينةِ القُرى وضجيجِ المُدن، هي وحدها قادرةٌ على تحريكِ الأشياء من أماكِنها، وتزيينِ الطُرقاتِ بألوانِها، وعزفِ مقطوعةِ ألحانها المُغناةَ بصوتٍ يُشنف الآذان ويريحُ القلوب الصبةِ الهائمةِ الحالمة.
لقد وصلت الكأسُ الغالية للمقصورةِ السُلطانيةِ في مُجمعِ السلطان العزيز النقي قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- مُتشرفةً اليوم بحملِ اسم المقام السامي لحضرة الهيثم المُفدى- أعزه الله-. وصلت الكأس إذن لمحطتِها الأخيرةِ في هذا الموسم الذي يتنفس الصعداء من رائحةِ الفيروس "الكوروني" المؤلم. محطةٌ شهدت وصولاً تاريخياً للرستاق، الولاية التي يحرسُها "الحجر الغربي" ويظلُها مجد العاصمة الأولى للسادة آل بوسعيد، وتستندُ مفاخرها على قلعةٍ عتيدةٍ صافيةٍ ببياضِ عِلمِها وعلمائها المُغتسلينَ "بكسفتِها" الساخنةِ وعيونِها الدواء لكُلِ سقيم والبلسم لكُلِ مهموم حزين. الرستاق المُتّشحةِ بعقدِ "الأفيولايت" الذي يتوسطهُ إنسانها المثابر المُتّشح ببُردةِ إمام دولتِها القائل: "يا من هواه أعزه وأذلني / كيف السبيل إلى وصالك دلني"، فكانت الرستاق- ولا زالت- أرض المشتاق العامرة بالأفلاج والعيون الرقراقة بين السهول والجبال والأودية المتخمةِ بالسمرِ والسدرِ والغاف وبمندوسٍ "سحتني" زُخرِفَ بثمارِ البوت اللذيذة التي تُلاقي حلاوة السيب شهدُ السُكرِ والحليب، سفينةٌ راسيةٌ بشاطئ جوهرة الساحل المُطل على بحر عُمان، وصقرٌ يخطفُ الألباب، يسكنُ حصنَ "دما"، ويغوصُ صيادًا ماهرًا في الماءِ العذبِ الفُرات، جامع بين دفتيه مجداً تليدًا وحاضرًا مُزدهرًا؛ فالسيب- في نهضةِ عُمان الحديثة- أصبحت يدُ المصافحةِ العُمانية الأولى، ومنارة العلم العُمانية الأولى، ومنبع الصناعاتِ العُمانية الأولى، وهي "البيت العود" المُحصنِ بأسوارِ الحُريةِ والأمان، والقاضية بأحكامِ الثقافة والأدب، وبمساجدٍ "فائقةٍ" مُعطرةٍ بالاطمئنان.
لمن الكأس؟ هي لكُلِ النَّاس، لذلك الإحساس المُمتد لأكثرِ من "تسعينَ أو مائةً وعشرين" دقيقة؛ فهي كلما حان موعدها جلبت كرنفال الحب، ومهرجان الوئام، ومنافسة شريفة صادقة. كأسٌ تهادت عشر في ظفار، وتلونت تسع بفنجاء الإصفرار، وعلى جنباتِ مطرح ترى خمس في الأهلي أشرعت مراكبها لخمسٍ في لبانِ النصر، وتقاسم نواخذة صور والعروبة ثمان حدائق زُهر، وحلق صقر السيب بثلاثٍ، وثلاثٍ قالها السويق من "حقيه"، فيما عزف العميد العُماني ثنائيتيه لحنًا طربيًا ما عاد معزوفًا بين الأجيال إلا لِماماً، وفي المدِ والجزرِ اتشحت الكأس بزرقتين صحماويتين خالصاتِ السجايا، وليشهد اليتم ذكرى "الحول" لروي في مسقط الحانية، ووحيدًا هناك تقف طليعة العيجة حكاية الفاتني المفقود في صفحةٍ باتت خالية، ثم نصل إلى انتظار محطة رابعة لإمبراطورٍ عائد أو محطة أولى لعنابي الجبل الواعد.
الكأس أيضًا بين "شهاب" ساطعٍ نجمه لا يرومهُ إلا المغامرون في "بيت المتنبي" الشهير؛ لأنه معنى السمو العظيم في شرف القيادة المُلهمة، وبين "هلال" طلته- دائمًا- منتظرة، فمعه فرحةَ الناس وسحابةَ أيامٍ تُرجى أن تكون ماطرة، وما حولهما ومعهما ترقُبٍ لتنظيمٍ نريده عرسًا كرويًا يليق بعُمان، يُزيح عنها مشهدنا الكروي ضعيف البيان، فنحن جُبلنا على "بكاء اللبن المسكوب" فرفقًا بنا؛ لنرى حماماتِ السعد في بوشر "البيت الكبير"، سيدة عطرة فتحت مغاليق أبواب موصدة، وهي تتهيأ اليوم لفتحٍ جديد بين قلعة الرستاق ودما السيب في مجمع الفرح السعيد. وإنَّا لمنتظرون.